إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه .

اعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى المقامات ؛ لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله : عز وجل : فكتمانه أسلم عن الآفات .

ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد ومقاصد الإظهار ثلاثة : الأول أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب فيذكره لا في معرض الشكاية بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه من قدرة الله تعالى فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن المطبب أوجاعه وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول : إنما أصف قدرة الله تعالى في .

الثاني : أن يصف لغير الطبيب ، وكان ممن يقتدى به وكان مكينا في المعرفة فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض ، بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض نعمة ، فيشكر عليها فيتحدث به ، كما يتحدث بالنعم قال الحسن البصري إذا حمد المريض الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى .

الثالث : أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى ، وذلك يحسن ممن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز كما روي أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه : كيف أنت ؟ قال : بشر ، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية فقال أتجلد على الله فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه عليه السلام وهو يقول : اللهم صبرني على البلاء ، فقال له صلى الله عليه وسلم لقد سألت الله تعالى البلاء فسل الله العافية .

فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض وإنما يشترط ذلك ؛ لأن ذكره شكاية والشكوى من الله تعالى حرام ، كما ذكرته في تحريم السؤال على الفقراء إلا بضرورة ، ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى فإن خلا عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها ، فلا يوصف بالتحريم ، ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه لأنه ؛ ربما يوهم الشكاية ولأنه ربما يكون فيه تصنع وتزيد في الوصف على الموجود من العلة ومن ترك التداوي توكلا فلا وجه في حقه للإظهار ؛ لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة إلى الإفشاء وقد قال بعضهم : من بث لم يصبر .


[ ص: 536 ] * (بيان حكم التوكل في إظهار المرض وكتمانه) *

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر) روى الطبراني وابن عساكر من حديث أنس: ثلاث من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصيبة، وكتمان الشكوى . قلت: وفي لفظ للطبراني: ثلاث من كنوز البر; كتمان الشكوى، وكتمان المصيبة، وكتمان الصدقة . وروى أبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر: من كنوز البر كتمان المصائب والأمراض والصدقة، وقد تقدم (وهو من أعالي المقامات; لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله -عز وجل- فكتمانه أسلم عن الآفات) ولفظ القوت: ولا ينقص توكل المتوكل إخباره بعلته على معنى التحدث بها مع فقد آفات النفوس إذا كان قلبه شاكرا بالقضاء راضيا، أو يكون بذلك مظهرا للعجز والافتقار بين يدي مولاه، أو راغبا في دعاء إخوانه المؤمنين، أو يشهد ذلك نعمة فيحدث بها نشرا للشكر، (فقد كان) أبو نصر (بشر) بن الحارث الحافي -رحمه الله تعالى- (يصف لعبد الرحمن المتطبب أوجاعه) فيصف له أشياء، (و) قيل (كان أحمد بن حنبل) -رحمه الله تعالى- (يخبر) الطبيب (بأمراض يجدها ويقول: إنما أصف قدرة الله تعالى في) وتقدم قريبا أنه كان ممن يكتم الأمراض فلا يخبر بها أحدا، فلعل وجه الجمع بينهما أن لا يخبر أحدا غير الطبيب، أو هو محمول على اختلاف الأحوال والأوقات .

(الثاني: أن يصف لغير الطبيب، وكان ممن يقتدى به) بأن كان إماما يستمع إليه وتقتبس منه الآثار، (وكان مكينا في المعرفة) يخبر بعلته وقلبه راض عن الله فيما قدره، (فأراد من ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض، بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى المرض نعمة، فيشكر عليها فيتحدث به، كما يتحدث بالنعم) ، أي: يكون إخباره بمثابة التحدث بنعمة الله تعالى .

(قال الحسن البصري) -رحمه الله تعالى-: (إذا حمد المريض الله وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى) نقله صاحب القوت .

(الثالث: أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى، وذلك يحسن بمن تليق به القوة والشجاعة ويستبعد منه العجز) والجبن (لما روي أنه قيل لعلي كرم الله وجهه) ، وهو (في مرضه: كيف أنت؟ قال: بشر، فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك) القول منه (فقال) علي (أتجلد على الله فأحب أن يظهر) لهم (عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة) وأراد أيضا أن يعلمهم أنه لا بأس بذلك; لأن من يقول: بخير إذا سئل كثير، كما قال الثوري: إنما العلم الرخصة من ثقة فأما التشديد فكل أحد يحسنه، (و) كان علي -رضي الله عنه- (تأدب فيه بأدب النبي صلى الله عليه وسلم) له ونهيه (إياه) عن إظهار القوة، فإنه روي أنه (حيث) كان (مرض) مرضه (فسمعه) النبي (صلى الله عليه وسلم حيث يقول: اللهم صبرني على البلاء، فقال) صلى الله عليه وسلم: (لقد سألت الله البلاء فسل الله تعالى العافية) ، وقد تقدم ذلك في كتاب الصبر مع اختلاف، ومن هنا قال مطرف رحمه الله تعالى: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر; لأن البلاء طريق الأقوياء، وكره أهل الإشفاق والخشية إظهار الجلد والقوة بين يدي العزيز، وقد روي أن الشافعي -رضي الله عنه- مرض مرضة شديدة بمصر، وكان يقول: اللهم إن كان في هذا رضاك فزدني منه، فكتب إليه إدريس بن يحيى المعافري: يا أبا عبد الله لست من رجال البلاء، فسل الله العافية فرجع عن قوله هذا، واستغفر الله منه فبعد هذا، كما حكي عنه أنه كان يقول في دعائه: اللهم اجعل خيرتي فيما أحب، (فهذه النيات ترخص في ذكر المرض وإنما يشترط ذلك; لأن ذكره) لمن لم يتداو نقص لحاله، وهو داخل في (شكاية) المولى (والشكوى من الله حرام، كما ذكرته في تحريم السؤال عن الفقر إلا لضرورة، ويصير الإظهار شكاية بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى [ ص: 537 ] فإن خلت عن قرينة السخط وعن النيات التي ذكرناها، فلا يوصف بالتحريم، ولكن يحكم فيه بأن الأولى لنا تركه; لأنه ربما يوهم الشكاية) من الله تعالى (ولأنه ربما) لا يؤمن من دخول الآفات عليه في الأخبار بأن (يكون فيه تصنع وتزيد في الوصف على الموجود في العلة) وغير ذلك، (ومن ترك التداوي توكلا فلا وجه في حقه للإظهار; لأن الاستراحة إلى الدواء أحسن من الاستراحة إلى الإفشاء) .

ولفظ القوت: لأن في الشكوى استراحة للنفس من البلوى والاستراحة بالدواء الذي هو إباحة المولى خير من استراحته إلى العبيد بالشكوى، (وقد قال بعضهم: من بث) ، أي: أظهر ما بلي به (لم يصبر) ، أي: لم يكن من الصابرين، فإن الصبر يقتضي عدم البث، قلت: وهذا قد روي مرفوعا، روى عبد الرزاق وابن جرير عن مسلم بن يسار عن سعد بن مسعود رفعه مثله، ورواه ابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . . فذكر مثله، ورواه ابن مردويه من حديث عبد الله بن عمر مثله، وروى ابن عدي والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر: من كنوز البر كتمان الصدقة وكتمان المصيبة، ومن بث لم يصبر .

التالي السابق


الخدمات العلمية