إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة .

اعلم أن اللذات تابعة للإدراكات ، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز ولكل قوة وغريزة لذة ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثا بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو مقتضى طبعها وغريزة شهوة الطعام مثلا خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام فلا جرم لذتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها ، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها ، فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي لقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى .

نور الإيمان واليقين ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعاني لأن الضعيف يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية ولنسم تلك الغريزة عقلا بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة ، فقد اشتهر اسم العقل بهذا ولهذا ذمه بعض الصوفية وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغي أن تذم وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها ، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم ، وهي لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى أن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به ، وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه ، وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به ، فإن العلم من أخص صفات الربوبية ، وهي منتهى الكمال ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به ثم ليست لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق ، ولا لذة العلم بالنحو والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض بل لذة العلم بقدر شرف العلم ، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم حتى أن الذي يعلم بواطن أحوال الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه فإن علم بواطن أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن حال فلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس فإن كان خبيرا بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولي على الوزير كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن أسرار الوزير ، وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم .

فهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم ، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها .

وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الاطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها ، وأحرى ما تستشعر به النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها ، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار ، وبهذا تبين أن العلم لذيذ وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين ، فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس فإن اللذات مختلفة بالنوع أولا كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع ، ولذة المعرفة للذة الرياسة .

وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق للمغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال ، وإنما تعرف أقوى اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها ، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة ، وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل ، فيعلم به أن لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل .

فهذا معيار صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول: اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها ؛ إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا للذوق ، والمعاني الباطنة أغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء ، فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة ، وإن كان على الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياما كثيرة ، فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من الطعومات الطيبة ، نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبا والعته ، فلذة معرفة الله تعالى ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق وغاية العبارة عنه أن يقال فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وأنه أعد لهم ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر ، على قلب بشر وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعا ، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد والفكر والذكر وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة ويستحقر الخلق الذين يرأسهم لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته ، وكونه مشوبا بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها وكونه مقطوعا بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها فيستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله ومطالعة صفاته وأفعاله ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين ، فإنها خالية من المزاحمات والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكبرها ، وإنما عرضها من حيث التقدير السموات والأرض وإذا خرج . ، النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها ، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السموات والأرض يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع من حياضها ، وهو آمن من انقطاعها ؛ إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة ثم هي أبدية سرمدية لا يقطعها الموت ؛ إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى ، ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي وإنما الموت يغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من حبسها ، فأما أن يعدمها فلا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم الآية .

ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة ، فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد وفي الخبر : إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى ؛ لعظم ما يراه من ثواب الشهادة وأن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء .

فإذا جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه ، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض ، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا إلا أنهم يتفاوتون في سعة منتزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم .

وسعة معارفهم ، وهم درجات عند الله ، ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم ، فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذوي الكمال من لذات الحواس كلها ، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه وأن لذة المحسوسات والشهوات تكون لذوي الكمال مع لذة الرياسة ولكن يؤثرون الرياسة .


(بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم)

(وأنه لا يتصور أن يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة) ولم يكن له منها نصيب وافر (اعلم) أرشدك الله تعالى (أن اللذات) بأسرها (تابعة للإدراكات، والإنسان) بحقيقته (جامع لجملة من القوى والغرائز) خلقت فيه لتمام حقيقته الإنسانية (ولكل قوة وغريزة) منها (لذة) يدرك بها الملائم من حيث إنه ملائم (ولذتها في نيلها لمقتضى طبعها الذي خلقت له فإن هذه الغرائز ما ركبت في الإنسان عبثا) لا فائدة فيها ولا حكمة، (بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع فغريزة الغضب خلقت للتشفي والانتقام) من المغضوب عليه (فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذي هو بمقتضى طبعها وغريزة شهوة الطعام مثلا خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام) للبدن (فلا جرم لذاتها في نيل هذا الغذاء الذي هو مقتضى طبعها، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار والاستماع والشم) وكذلك حصول المرجو عند القوة الوهمية والأمور الماضية عند القوة الحافظة يلتذ بتذكرها، (فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة) فما كان ملائما يسمى لذة، وما لا فألما، وكل ذلك (بالإضافة إلى مدركاتها، فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي) والفيض القدسي (لقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) ، فذلك النور هو الذي ينفسح له الصدر فيتنور بأشعة (وقد تسمى العقل) وقد يسمى عين القلب وقد يسمى الروح وقد يسمى النفس الإنساني، (وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى نور الإيمان واليقين) وكل ذلك تعبيرات عن عين في القلب منزهة عن نقائص العين الظاهرة (ولا معنى للاشتغال بالأسامي) المختلفة (فإن الاصطلاحات مختلفة) ولا مشاحة فيها (والضعيف) البصيرة ربما (يظن أن الاختلاف واقع في المعاني) فيتوهم كثرتها بكثرة أساميها; (لأن الضعيف شأنه) أبدا (يطلب المعاني من الألفاظ وهو عكس الواجب) فإن دائرة المعاني أوسع من دائرة الألفاظ فلا تكاد الألفاظ تحيط بها كما ينبغي (فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن بصفة بها يدرك المعاني التي ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات الإلهية ولنسم تلك الغريزة عقلا) متابعة [ ص: 572 ] للجمهور في الاصطلاح ونعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن المجنون وعن البهيمة (بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة، فقد اشتهر اسم العقل بهذا) ، وسموا العلوم المحصلة من طريقة بالمعقولات (ولهذا ذمه بعض الصوفية) لما يطرأ في تلك العلوم التي طريقها العقل من الخيالات والأوهام والاعتقادات ما يكون سببا لفاحش أغلاطهم (وإلا فالصفة التي فارق الإنسان بها البهائم) والأطفال والمجانين (وبها يدرك معرفة الله تعالى أعز الصفات) وأنفسها وأعلاها، وهي الحقيقة بأن تسمى باسم النور وأولى بهذه التسمية من العين الظاهرة (فلا ينبغي أن تذم) ولا ينسب إليها النقص، (وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها، فمقتضى طبعها المعرفة والعلم، وهي لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة) هي أنفس اللذائذ وأعلاها (حتى أن الذي ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في شيء خسيس يفرح به والذي ينسب إلى الجهل ولو في شيء حقير يغتم به، وحتى أن الإنسان لا يكاد يصبر عن التحدي بالعلم) أي: المباراة ومنازعته الغلبة به (والتمدح به) بين الناس (في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب بالشطرنج على خسته) وقلة قدره (لا يطبق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه، وكل ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به، فإن العلم من أخص صفات الربوبية، وهي منتهى الكمال) ، وقد تقدم الكلام عليه في كتاب العلم (ولذلك يرتاح الطبع إذا أثنى عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذلك وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به) ويرتاح إليه (ثم ليس لذة العلم بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق، ولا لذة العلم بالنحو والشعر) والأدب (كلذة العلم بالله وصفاته وملائكته وملكوت السماوات والأرض بل لذة العلم بقدر شرف العلم، وشرف العلم بقدر شرف المعلوم) ، فإن كان المعلوم شريفا كان العلم به أشرف (حتى أن الذي يعلم بواطن أحوال الناس) وأسرارهم الخفية (ويخبر بذلك يجد له لذة) ويرتاح إليه، (وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه) ويبحث ليحصله (فإن علم بواطن رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن حال فلاح أو حائك) ومن في معناهما (فإن اطلع على أسرار الوزير) وتدبيره ودقائق حركاته (وما هو عازم عليه في أمور الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس) لرفعة منزلة الوزير على الرئيس (فإن كان خبيرا بباطن أحوال الملك والسلطان الذي هو المستولي على الوزير) والحاكم عليه (كان ذلك أطيب عنده وألذ من اطلاعه بباطن أمور الوزير، وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن لذته فيه أعظم) ، وهذا كله مراتب مرتبة بعضها على بعض (فبهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم) ، كما تقدم (فإن كان في المعلومات ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم، فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها وليت شعري هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها) وموجدها (ومكملها ومزينها ومبديها ومعيدها ومدبرها ومرتبها) على أبدع ترتيب (وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمال [ ص: 573 ] والجمال والبهاء والجلال أعظم) وأجل (من الحضرة الربانية التي لا يحيط بمبادي جلالها) وعظمها (وعجائب أحوالها وصف الواصفين) وإن بالغوا (فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغي أن تشك في أن الاطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتيب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها، وأحرى ما تستشعر النفوس عند الاتصاف به كمالها وجمالها، وأجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار، وبهذا يتبين أن العلم لذيذ وأن ألذ المعلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين، فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من سائر اللذات أعني لذة الشهوة والغضب وسائر الحواس الخمس) الظاهرة والباطنة (فإن اللذات مختلفة بالنوع أولا كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع، ولذة المعرفة للذة الرياسة، وهي مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق للمغتلم) ، أي: الهائج الشهوة (من الجماع للذة الفاتر للشهوة وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه) الحسن (الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في الجمال، وإنما تعرف أقوى اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها، فإن المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة، وكذلك إذا حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل، فيعلم به أن لذة الغلبة) على قرنه (في الشطرنج أقوى عنده من لذة الأكل) ولولا ذلك لترك اللعب واشتغل بالأكل (فهذا معيار صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول: اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس)من إبصار واستماع وشم وذوق ولمس، (وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة والكرامة والعلم وغيرها; إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا للأذن ولا للمس ولا للذوق، والمعاني الباطنة) أقوى (وأغلب على ذوي الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين لذة الدجاج المسمن واللوزينج) ، وهو الحلوى المتخذة من السكر واللوز، (وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء، فإن كان المخير خسيس الهمة) دنيئها (ميت القلب شديد البهيمية اختار اللحم والحلاوة، وإن كان علي الهمة) رفيعها حي القلب (كامل العقل) منور البصيرة (اختار الرياسة) والغلبة والاستيلاء (وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياما كثيرة، فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من المطعومات الطيبة، نعم الناقص الذي لم تكمل معانيه الباطنة بعد كالصبي أو كالذي ماتت قواه الباطنة كالمعتوه لا يبعد أن يؤثر لذة المطعومات على لذة الرياسة) بمقتضى طبعهما، (وكما أن لذة الرياسة والكرامة أغلب اللذات على من جاوز نقصان الصبي والعته، فلذة معرفة الله ومطالعة جمال حضرة الربوبية والنظر إلى أسرار الأمور الإلهية) بعين البصيرة (ألذ من الرياسة التي هي أعلى اللذات الغالبة على الخلق) والعبارة عن هذه اللذة عسر، (وغاية العبارة عنه أن يقال) كما أخبر عنه الله تعالى ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) [ ص: 574 ] وكما أخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم (أنه أعد لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وذلك فيما قاله حاكيا عن ربه -عز وجل-: أعددت لعبادي الصالحين . . . الحديث، رواه البخاري من حديث أبي هريرة .

(وهذا الآن لا يعرفه إلا من ذاق اللذتين جميعا، فإنه لا محالة يؤثر التبتل والتفرد) عن الخلق (والفكر والذكر) ويرابط قلبه على المراقبة (وينغمس في بحار المعرفة ويترك الرياسة) والاستعلاء (ويستحقر الخلق الذين يرؤسهم) ويعلو عليهم (لعلمه بفناء رياسته وفناء من عليه رياسته، وكونه مشوبا بالكدورات التي لا يتصور الخلو عنها) ولا عن القدرة (وكونه مقطوعا بالموت الذي لا بد من إتيانه مهما أخذت الأرض) ، أي: أرض الوجود (زخرفتها) ، أي: زينتها (وازينت) ، أي: تلألأت بكمال بهجتها (وظن أهلها أنهم قادرون عليها) وتمام الآية: أتاها أمرنا ليلا أو نهارا . والمراد بإتيان الأمر هو الموت، (فليستعظم بالإضافة إليها لذة معرفة الله تعالى ومطالعة صفاته) العلية (وأفعاله) ومعاملاته مع عبيده (ونظام مملكته من أعلى عليين إلى أسفل السافلين، فإنها خالية عن المزاحمات) والمدافعات (والمكدرات متسعة للمتواردين عليها لا تضيق عنهم بكثرتها، وإنما عرضها من حيث التقدير السماوات والأرض، وإخراج النظر عن المقدرات فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها في جنة عرضها السماوات والأرض) ، وإنما خص العرض دون الطول; لأن الطول تابع للعرض، أو لأن العرض أقل من الطول، فإذا كان عرضها هكذا، فما بالك بطولها؟ (يرتع في رياضها ويقطف من ثمارها ويكرع في حياضها، وهو آمن من انقطاعها; إذ ثمار هذه الجنة غير مقطوعة ولا ممنوعة) فما من ثمرة يقطفها إلا وينبت مكانها مثلها وأحسن منها، ولا حرج على قاطفها (ثم هذه أبدية سرمدية لا يقطعها الموت; إذ الموت لا يهدم محل معرفة الله تعالى، ومحلها الروح الذي هو أمر رباني سماوي إنما الموت يغير أحوالها ويقطع شواغلها وعوائقها) ويجردها عنها، (ويخليها من حبسها، فأما أن يعدمها فلا) قال الله تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون الآية) ، وتمامها: فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ، (ولا تظنن أن هذا مخصوص بالمقتول في المعركة، فإن للعارف بكل نفس درجة ألف شهيد) في المعركة (وفي الخبر: إن الشهيد يتمنى في الآخرة أن يرد إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى; لعظم ما يراه من ثواب الشهادة) . رواه الشيخان من حديث أنس، وقد تقدم، (و) في الخبر أيضا: (أن الشهداء يتمنون لو كانوا علماء لما يرونه من علو درجة العلماء، فإذا جميع أقطار ملكوت السموات والأرض ميدان العارف يتبوأ منه حيث يشاء من غير حاجة إلى أن يتحرك إليها بجسمه وشخصه، فهو من مطالعة جمال الملكوت في جنة عرضها السموات والأرض، وكل عارف فله مثلها من غير أن يضيق بعضهم على بعض أصلا إلا أنهم يتفاوتون في سعة تنزهاتهم بقدر تفاوتهم في اتساع نظرهم وسعة معارفهم، وهم درجات عند الله، ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، فقد ظهر أن لذة الرياسة وهي باطنة أقوى في ذرى الكمال من لذات الحواس كلها، وأن هذه اللذة لا تكون لبهيمة ولا لصبي ولا لمعتوه) ; إذ لا عقل لهم، وإن لذة المحسوسات والشهوات تكون [ ص: 575 ] لذوي الكمال مع لذة الرياسة، ولكن يؤثرون الرياسة على غيرها من اللذات .

التالي السابق


الخدمات العلمية