إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان السبب في زيادة النظر في لذة الآخرة على المعرفة في الدنيا .

اعلم أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة والمتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات وإلى ما لا يدخل في الخيال كذات الله تعالى ، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها .

ومن رأى إنسانا ثم غض بصره وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين ؛ لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة ، وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف ، فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافا ووضوحا ، وهو كشخص يرى في وقت الإسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم رؤى عند تمام الضوء ، فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف .

فإذن الخيال أول الإدراك والرؤية هو الاستكمال لإدراك الخيال وهو غاية الكشف ، وسمي ذلك رؤية ؛ لأنه غاية الكشف لا لأنه في العين بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة ، أو الصدر مثلا استحق أن يسمى رؤية وإذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تتشكل أيضا في الخيال لمعرفتها وإدراكها درجتان : إحداهما أولى ، والثانية استكمال لها .

وبين الأولى والثانية من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح ما بين المتخيل والمرئي فيسمى الثاني أيضا بالإضافة إلى الأول مشاهدة ولقاء ورؤية ، وهذه التسمية حق ؛ لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف وكما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجابا بين البصر والمرئي ولا بد من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية ، فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال ، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار .

والقول في سبب كونها حجابا يطول ولا يليق بهذا العلم .

ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام : لن تراني وقال تعالى : لا تدركه الأبصار أي في الدنيا والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملوثة بكدورات الدنيا غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة ، فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها فلا تقبل الإصلاح والتصقيل ، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد ، نعوذ بالله من ذلك .


(بيان السبب في زيادة الفضل في الآخرة على المعرفة في الدنيا)

(اعلم) هداك الله تعالى (أن المدركات تنقسم إلى ما يدخل في الخيال) وهي قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك (كالصور المتخيلة والأجسام المتلونة المتشكلة من أشخاص الحيوان والنبات وإلى ما لا يدخل في الخيال كذات الله تعالى، وكل ما ليس بجسم كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها) من صفات المعاني (ومن رأى إنسانا ثم غض بصره وجد صورته حاضرة في خياله) بعد غيبوبة مادته بعض البصر (كأنه ينظر إليها) بقوة الحس المشترك، (ولكن إذا فتح العين وأبصر أدرك تفرقة بينهما ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين; لأن الصورة المرئية تكون موافقة للمتخيلة، وإنما الافتراق بمزيد الوضوح والكشف، فإن صورة المرئي صارت بالرؤية أتم انكشافا ووضوحا، وهو كشخص يرى في وقت الأسفار قبل انتشار ضوء النهار ثم رؤى) وقت الضحوة (عند تمام الضوء، فإنه لا تفارق إحدى الحالتين الأخرى إلا في مزيد الانكشاف) وتمام الوضوح، (فإذا الخيال أول الإدراك) ، وهو خزانة الحس المشترك (والرؤية هو استكمال لإدراك الخيال) أي: ما تخيله في تلك القوة، (وهو غاية الكشف، وسمي ذلك رؤية; لأنه غاية الكشف لا لأنه في العين بل لو خلق الله هذا الإدراك الكامل المكشوف في الجبهة، أو الصدر مثلا استحق أن يسمى رؤية) فلا اختصاص للرؤية بالعين، (وإذا فهمت هذا في المتخيلات فاعلم أن المعلومات التي لا تشكل أيضا في الخيال لمعرفتها وإدراكها درجتان: إحداهما أولى لها، والثانية استكمال لها، وبين الأولى والثانية من التفاوت في مزيد الكشف والإيضاح) مثل (ما بين المتخيل والمرئي [ ص: 580 ] فيسمى الثاني أيضا بالإضافة إلى الأول مشاهدة ولقاء ورؤية، وهذه التسمية حق; لأن الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف) ، وأصلها إدراك المرئي، وهو على أضرب بحسب قوة النفس، (وكما أن سنة الله تعالى جارية بأن تطبيق الأجفان يمنع من تمام الكشف بالرؤية ويكون حجابا بين البصر والمرئي ولا بد من ارتفاع الحجب لحصول الرؤية وما لم ترتفع كان الإدراك الحاصل مجرد التخيل) ، أي: التصور في الخيال، (فكذلك مقتضى سنة الله تعالى أن النفس ما دامت محجوبة بعوارض البدن ومقتضى الشهوات وما غلب عليها من الصفات البشرية، فإنها لا تنتهي إلى المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجة عن الخيال، بل هذه الحياة حجاب عنها بالضرورة كحجاب الأجفان عن رؤية الأبصار، والقول في سبب كونه حجابا يطول) ذكره (ولا يليق بهذا العلم) ، فإنه من أسرار المكاشفات، (ولذلك قال تعالى لموسى -عليه السلام-) لما طلب الرؤية (لن تراني) أي: ما دمت محجوبا بحجاب الحياة، وقال سيدي عبد العزيز الدباغ -قدس سره- حين سئل عن هذه الآية ما حاصله أن سيدنا موسى -عليه السلام- من أكابر أهل المشاهدة، ومشاهدة الذات العلية لا تخلص لأهلها من مشاهدة أفعالها ولا تصفو عنها إلا لو كانت أفعال الذات العلية تنقطع، ولو انقطعت طرفة عين لانهد الوجود، واختل نظام العالم، فما من وجود إلا وفيه فعل الله، وهو مادته والسبب في بقائه، وهو الحجاب بينه وبين الذات العلية، ولولا أنه تعالى حجب ذواتنا بأفعاله فيها لاحترقت الذرات وذاب كل حادث في العالم، فلما لم تصف المشاهدة لأهلها وصارت الأفعال المتقدمة بمنزلة القذى في البصر، سأل موسى -عليه السلام- ربه أن يقطع عنه الفعل حتى لا يحجبه عن مشاهدة الذات العلية على الصفاء، فقال له ربه -عز وجل- إذا قطعت الفعل عن الحادث اختلت ذاته، وهذا الجبل أقوى منك ذاتا، وأصلب منك جرما، فانظر إليه، فإن استقر مكانه بعد قطع فعلي عنه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل وقطع عنه الفعل الحاجب له من سطوة الذات العلية تدكدك الجبل وتطايرت أجزاؤه حتى صعق موسى -عليه السلام- اهـ .

(وقال تعالى: لا تدركه الأبصار في الدنيا) لوجود الحجاب المانع من الرؤية، (والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى الله تعالى ليلة المعراج) . قال العراقي: هذا الذي صححه المصنف هو قول عائشة، ففي الصحيحين أنها قالت من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ولمسلم من حديث أبي ذر: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقد رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه . وذهب ابن عباس وأكثر العلماء إلى إثبات رؤيته له وعائشة لم تر، وذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي ذر قال فيه أحمد ما زلت له منكرا . وقال ابن خزيمة في القلب من صحة إسناده شيء، وفي رواية لأحمد من حديث أبي ذر رأيته نورا أنى أراه، ورجال إسنادها رجال الصحيح، اهـ .

قلت: ورواية أبي ذر الأولى رواها كذلك الطيالسي والترمذي وابن حبان وابن مردويه: هل رأيت ربك قال . . . . فذكره، وروى عبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي ذر قال: رآه بقلبه ولم يره بعينه، ورواه النسائي مثله إلا أنه قال: ولم يره ببصره، وقد روي عن أبي العالية مثله كذا رواه ابن جرير، وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن الشعبي قال: لقي ابن عباس بعرفة فسأله عن شيء فكبر حتى جاوبته الجبال، فقال ابن عباس: إنا بني هاشم نزعم ونقول: إن محمدا قد رأى ربه مرتين، فقال كعب: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فرآه محمد مرتين وكلم موسى مرتين . قال مسروق: فدخلت على عائشة فقلت: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد تكلمت بشيء قف له شعري، قلت: رويدا ثم قرأت: لقد رأى من آيات ربه الكبرى ، قالت: أين يذهب بك، إنما هو جبريل، من أخبرك أن محمدا رأى ربه أو كتم شيئا مما أمر به، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى: إن الله عنده علم الساعة الآية فقد أعظم الفرية ولكنه رأى جبريل لم يره في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة عند جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق.

وأما قول ابن عباس، فروي عنه من طرق بألفاظ مختلفة، فعند الطبراني وابن مردويه عنه، قال: إن محمدا رأى ربه مرتين ببصره ومرة بفؤاده، وعن ابن مردويه عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه، وروى الترمذي وحسنه والطبراني وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه، قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- وروى النسائي والحاكم وصححه [ ص: 581 ] وابن مردويه عنه قال: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد عليهم السلام؟! والكلام في المسألة طويل الذيل أورده شراح الشفاء. فليراجع، (فإذا ارتفع الحجاب بالموت بقيت النفس ملونة بكدورات الدنيا غير منفكة عنها بالكلية وإن كانت متفاوتة، فمنها ما تراكم عليه الخبث والصدأ فصار كالمرآة التي فسدت بطول تراكم الخبث على جوهرها فلا يقبل الإصلاح والتصقيل، وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم أبد الآباد، نعوذ بالله من ذلك) وإليهم يشير قوله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ,

التالي السابق


الخدمات العلمية