إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
السبب الثاني : لقوة المحبة قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب ، وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها من الحشيش وهو الشطر الثاني ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة ، وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلا حيث قال ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وإليها الإشارة بقوله تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب أي المعرفة والعمل الصالح يرفعه فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة ، وكالخادم ، وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولا من الدنيا ثم إدامة طهارته فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة ، وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل ، فالعلم هو الأول وهو الآخر وإنما الأول علم المعاملة وغرضه العمل وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته ؛ ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة ، وهو علم المكاشفة ، ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة ، كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه ، ومهما أحبه حصلت اللذة ، فاللذة تبع المحبة بالضرورة ، والمحبة تبع المعرفة بالضرورة ، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي والذكر الدائم والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله تعالى وفي صفاته وفي ملكوت سماواته وسائر مخلوقاته ، والواصلون إلى هذه الرتبة ينقسمون إلى الأقوياء ويكون أول معرفتهم بالله تعالى ، ثم به يعرفون غيره ، وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال ، ثم يترقون منها إلى الفاعل وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وبقوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو ومنه نظر بعضهم حيث قيل له : بم عرفت ربك قال : عرفت ربي ، ولولا ربي لما عرفت ربي وإلى الثاني الإشارة بقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق الآية وبقوله عز وجل : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وبقوله تعالى قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وبقوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين ، وهو الأوسع على السالكين ، وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر فإن قلت : كلا الطريقين مشكل فأوضح لنا منهما ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة ، فاعلم أن الطريق الأعلى هو ، الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو غامض ، والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق ، فلا فائدة في إيراده في الكتب وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام ، وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس ، والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية ؛ إذ ما من ذرة من أعلى السموات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته وذلك مما لا يتناهى قل ، لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ؛ فالخوض فيه انغماس في بحار علوم المكاشفة ، ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة ، ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه فنقول : أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال ، فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى ، ثم الأفعال الإلهية كثيرة ؛ فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها ولننظر في عجائبها ، فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها أعني بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السموات ؛ فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص ، فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة فانظر إلى صغر الأرض ، بالإضافة إليها ، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه ؛ فإنه لا نسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة ، وهي صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع ، ثم السموات السبع في الكرسي كحلقة في فلاة والكرسي في العرش كذلك فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير ، وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها ، بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار ! فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأرض في البحر كالإصطبل في الأرض ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجربة وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من التراب الذي هو جزء من الأرض وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض ودع عنك جميع ذلك ، فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنحل وما يجري مجراه فانظر في البعوض على قدر صغر قدره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات ؛ إذ خلق له خرطوما مثل خرطومه وخلق له على شكله الصغير سائر الأعضاء ، كما خلقه للفيل بزيادة جناحين وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه وأخرج يده ورجله وشق سمعه وبصره ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات وركب فيها من القوى الغاذية والجاذبة والدافعة والماسكة والهاضمة ما ركب في سائر الحيوانات هذا في شكله وصفاته ، ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان ، ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان ، وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس وكيف ، هداه إلى مسام بشرة الإنسان حتى يضع خرطومه في واحد منها ، ثم كيف قواه حتى يغرز فيه الخرطوم وكيف علمه المص والتجرع للدم وكيف خلق الخرطوم مع دقته مجوفا حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب ثم إذا ، سكنت اليد يعود ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه .

وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحتمل حدقة الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار خلق للبعوض والذباب يدين فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه .

وأما الإنسان والحيوان الكبير فخلق لحدقتيه الأجفان حتى ينطبق أحدهما على الآخر وأطرافهما حادة .فيجمع ، الغبار الذي يلحق الحدقة ويرميه إلى أطراف الأهداب ، وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الأهداب ، واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار .

وأما البعوض فخلق لها حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين ولأجل ضعف إبصارها تراها تتهافت على السراج ؛ لأن بصره ضعيف ، فهي تطلب ضوء النهار ، فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء ، فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه ، فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها ، فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها ، بل صورة الآدمي في الإكباب على شهوات الدنيا صورة الفراش في التهافت على النار ؛ إذ تلوح ؛ للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها ، ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل ، فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكا مؤبدا ، فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال ، والآدمي يبقى في النار أبد الآباد ، أو مدة مديدة ولذلك كان ينادي رسول الله : صلى الله عليه وسلم : ويقول : إني ممسك بحجزكم عن النار ، وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش .


(السبب الثاني: لقوة المحبة قوة معرفة الله تعالى واتساعها واستيلاؤها على القلب، وذلك بعد تطهير القلب من جميع شواغل الدنيا وعلائقها يجري مجرى وضع البذر في الأرض بعد تنقيتها) وتنظيفها مما يخالفها (من الحشيش) والشوك وغير ذلك، (وهو الشطر الثاني ثم يتولد من هذا البذر شجرة المحبة والمعرفة، وهي الكلمة الطيبة التي ضرب الله بها مثلا حيث قال) : ألم تر كيف ( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ) فعرفنا أن أصلا ثابتا في القلوب بما أمدها به من النظر والاعتبار، وعرفنا أن لها فروعا تنشأ منها هي مواجيد القلوب وأحوال لها بسبب ما جبلها عليه من محبة سعادتها وكمالها (وإليها الإشارة بقوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب فهي المعرفة والعمل الصالح يرفعه فالعمل الصالح كالجمال لهذه المعرفة، وكالخادم لها، وإنما العمل الصالح كله في تطهير القلب أولا من الدنيا ثم إدامة طهارته فلا يراد العمل إلا لهذه المعرفة، وأما العلم بكيفية العمل فيراد للعمل، فالعلم هو الأول) وهو الأصل الذي هو عقد من عقود الإيمان بالله ولله (وهو الآخر) ، أي العمل هو الآخر؛ لأنه تنشئة المواجيد على القلوب والجوارح، (وإنما الأول علم المعاملة وغرضه وغرض المعاملة صفاء القلب وطهارته؛ ليتضح فيه جلية الحق ويتزين بعلم المعرفة، وهو علم المكاشفة، ومهما حصلت هذه المعرفة تبعتها المحبة بالضرورة، كما أن من كان معتدل المزاج إذا أبصر الجميل وأدركه بالعين الظاهرة أحبه ومال إليه، ومهما أحبه حصلت اللذة، فاللذة تتبع المحبة بالضرورة، والمحبة تتبع المعرفة بالضرورة، ولا يوصل إلى هذه المعرفة بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب إلا بالفكر الصافي) من الكدر (والذكر الدائم) في كل حال (والجد البالغ في الطلب والنظر المستمر في الله وفي صفاته وملكوت سماواته وسائر مخلوقاته، والواصلون إلى هذه المرتبة ينقسمون إلى [ ص: 588 ] الأقوياء يكون أول معرفتهم لله تعالى، ثم به يعرفون غيره، وإلى الضعفاء ويكون أول معرفتهم بالأفعال، ثم يرتقون منها إلى الفاعل) فالأقوياء ما يرون شيئا إلا رأوا الله معه، وربما زاد على هذا بعضهم، فقال: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله؛ لأن منهم من يرى الأشياء به، والضعفاء يرون الأشياء فيرونه بالأشياء، (وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وبقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو ) وصاحب هذا المقام مشاهدة ودرجته درجة الصديقين، ومما نسب للشيخ الأكبر -قدس سره-: سائلي عن عقيدتي أحسن الله ظنه علم الله أنها شهد الله أنه؛ أشار بذلك إلى مقام المشاهدة، (ومنه نظر بعضهم) ، وهو ذو النون المصري -رحمه الله تعالى- (حيث قيل له: بم عرفت ربك؟ فقال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي) . رواه القشيري في الرسالة: قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: قيل لذي النون: بم عرفت ربك؟ فساقه. (وإلى الثاني الإشارة بقوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق وبقوله: أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وبقوله تعالى: قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وبقوله تعالى: الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ) وصاحب هذا المقام صاحب استدلال ودرجته درجة العلماء الراسخين، (وهذا الطريق هو الأسهل على الأكثرين، وهو الأوسع على السالكين، وإليه أكثر دعوة القرآن عند الأمر بالتدبر والتفكر والاعتبار والنظر في آيات خارجة عن الحصر) وليس بعدهما إلا درجة الغافلين المحجوبين، (فإن قلت: كلا الطريقين مشكل فأوح لنا منها ما يستعان به على تحصيل المعرفة والتوصل به إلى المحبة، فاعلم أن الطريق الأعلى، وهو الاستشهاد بالحق سبحانه على سائر الخلق فهو) مرتبة الصديقين وهو (غامض) ، أي: خفي المدرك، (والكلام فيه خارج عن حد فهم أكثر الخلق، فلا فائدة لإيراده في الكتب) إذا لم ينتفع به أحد لدقته وغموضه، (وأما الطريق الأسهل الأدنى فأكثره غير خارج عن حد الأفهام، وإنما قصرت الأفهام عنه لإعراضها عن التدبر) فيه (واشتغالها بشهوات الدنيا وحظوظ النفس، والمانع من ذكر هذا اتساعه وكثرته وانشعاب أبوابه الخارجة عن الحصر والنهاية؛ إذ ما من ذرة من أعلى السماوات إلى تخوم الأراضين إلا وفيها عجائب آيات تدل على كمال قدرة الله تعالى وكمال حكمته ومنتهى جلاله وعظمته) ، كما قال القائل:

فواعجبا كيف يعصى الإلـ ـه أم كيف يجحده الجاحد     وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

(وذلك مما لا يتناهى، بل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي؛ فالخوض فيه انغماس في مجاري علوم المكاشفة، ولا يمكن أن يتطفل به على علوم المعاملة، ولكن يمكن الرمز إلى مثال واحد على الإيجاز ليقع التنبيه لجنسه فنقول: أسهل الطريقين النظر إلى الأفعال، فلنتكلم فيها ولنترك الأعلى، ثم الأفعال الإلهية كثيرة؛ فنطلب أقلها وأحقرها وأصغرها لننظر في عجائبها، فأقل المخلوقات هو الأرض وما عليها أعني [ ص: 589 ] بالإضافة إلى الملائكة وملكوت السماوات؛ فإنك إن نظرت فيها من حيث الجسم والعظم في الشخص، فالشمس على ما ترى من صغر حجمها هي مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة) ، وروى أبو الشيخ في العظمة عن عكرمة قال: الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش. (فانظر إلى صغر الأرض، بالإضافة إليها، ثم انظر إلى صغر الشمس بالإضافة إلى فلكها الذي هي مركوزة فيه؛ فإنه بالنسبة لها إليه وهي في السماء الرابعة، وهي) ، أي السماء الرابعة، (صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها من السموات السبع، ثم السموات السبع في الكرسي كحلقة) ملقاة (في فلاة) من الأرض، (والكرسي في العرش كذلك) ، وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: لو أن السموات السبع والأرضين السبع ثم وصلن بعضهن ببعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة، وروى ابن جرير وابن مردويه وأبو الشيخ في العظمة عن أبي ذر أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الكرسي، فقال: ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة. وروى أبو الشيخ عن عكرمة قال: الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش. وروى ابن جرير وابن حاتم عن السدي قال: إن السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش. وروى عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء والأرض السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء. (فهذا نظر إلى ظاهر الأشخاص من حيث المقادير، وما أحقر الأرض كلها بالإضافة إليها، بل ما أصغر الأرض بالإضافة إلى البحار! فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الأرض في البحر كالإصطبل في الأرض) .

قال العراقي: لم أجد له أصلا، (ومصداق هذا عرف بالمشاهدة والتجربة وعلم أن المكشوف من الأرض عن الماء كجزيرة صغيرة بالإضافة إلى كل الأرض) ، ومساحة بسيطها مائة ألف ألف وثلاثة وثمانون ألف ألف وثلاثمائة ألف وعشرون وأربعمائة ميل، ومساحة بسيط عمارتها من الربع المسكون اثنان وثلاثون ألف ألف وأربعة وتسعون ألفا ومائة وثمانية أميال، ونسبتها إلى مساحة بسيط الأرض كلها السدس وسدس العشر تقريبا، وذلك من أقصى العمارة تقريبا بالمشرق إلى أقصى المغرب طولا، ومن حيث خط الاستواء إلى حيث يرتفع القطب ستة وستون جزءا وربع سدس جزء عرضا، (ثم انظر إلى الآدمي المخلوق من تراب الذي هو جزء من الأرض وإلى سائر الحيوانات وإلى صغره بالإضافة إلى الأرض) وما أودع الله فيه من أسرار العالم الكبير، (ودع عنك جميع ذلك، فأصغر ما نعرفه من الحيوانات البعوض والنمل وما يجري مجراه فانظر إلى البعوض) ، وهو صنفان: صنف يشبه القراد لكن أرجله خفيفة ورطوبته ظاهرة، وإليه أشار الجوهري بقوله: وصنف في خلقة الفيل، وهو المعروف بالناموس، وهو المراد به هنا (على صغر قدره وتأمله بعقل حاضر وفكر صاف فانظر كيف خلقه الله تعالى على شكل الفيل الذي هو أعظم الحيوانات؛ إذ خلق له خرطوما مثل خرطومه وخلق له على شكله الصغير سائر الأعضاء، كما خلقه للفيل بزيادة الجناحين) في كل ناحية ورجلين؛ فللفيل أربعة أرجل وخرطوم وذنب وللبعوض مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان وأربعة أجنحة، (وانظر كيف قسم أعضاءه الظاهرة فأنبت جناحه وأخرج يده ورجله وشق سمعه وبصره) وأودع في مقدمة دماغه قوة الحفظ، وفي وسطه قوة الفكر، وفي مؤخره قوة الذكر، وخلق له حاسة البصر وحاسة السمع وحاسة اللمس وحاسة الشم، (ودبر في باطنه من أعضاء الغذاء وآلاته ما دبره في سائر الحيوانات) وركب فيها من القوى الغذائية والجذابة [ ص: 590 ] والدافعة والماسكة والهاضمة وما ركب في سائر الحيوانات، وخلق له منفذا للغذاء ومخرجا للفضلة وخلق له جوفا ومعى وعظاما. أنشد الزمخشري في الكشاف:

ويرى نياط عروقها من لحمها     والمخ في تلك العظام النحل

(هذا في شكله وصفاته، ثم انظر إلى هدايته كيف هداه الله تعالى إلى غذائه وعرفه أن غذاءه دم الإنسان، ثم انظر كيف أنبت له آلة الطيران إلى الإنسان، وكيف خلق له الخرطوم الطويل وهو محدد الرأس، كيف هداه إلى مسام بشرة الإنسان) التي يخرج منها العرق فيتوخاها (حتى يضع خرطومه في واحد منها، ثم قواه حتى يغرز فيه الخرطوم) ويشتد عضده ويقوى على خرق الجلود الغلاظ، قال الراجز:

مثل السقاة دائما طنينها     ركب في خرطومها سكينها

(وكيف علمه المص والتجرع للدم وكيف خلق الخرطوم مع رقته مجوفا حتى يجري فيه الدم الرقيق وينتهي إلى باطنه وينتشر في سائر أجزائه ويغذيه) ، فهو له كالبلعوم والحلقوم، (ثم كيف عرفه أن الإنسان يقصده بيده فعلمه حيلة الهرب واستعداد آلته وخلق له السمع الذي يسمع به خفيف حركة اليد وهي بعد بعيدة منه فيترك المص ويهرب، وإذا سكنت يعود) إلى عمله، وفيه من الشره أنه يمص الدم إلى أن يموت أو يعجز عن الطيران، (ثم انظر كيف خلق له حدقتين حتى يبصر موضع غذائه فيقصده مع صغر حجم وجهه، وانظر إلى أن حدقة كل حيوان صغير لما لم تحتمل حدقة الأجفان لصغره وكانت الأجفان مصقلة لمرآة الحدقة عن القذى والغبار خلق للبعوض والذباب يدين) وهما الزائدتان عن الفيل المتقدم ذكرهما، (فتنظر إلى الذباب فتراه على الدوام يمسح حدقتيه بيديه) وكلاهما من ذوي الخراطيم، (وأما الإنسان والحيوان الكبير خلق لحدقتيه الأجفان) لكل حدقة جفنان أعلى وأسفل (حتى ينطبق إحداهما على الآخر وأطرافهما حادة، فيجتمع الغبار الذي يلحق الحدقة يرميه إلى أطراف الأهداب، وخلق الأهداب السود لتجمع ضوء العين وتعين على الإبصار وتحسن صورة العين) ، وقد خصت الحكمة الآلهية لون السواد بذلك، والبياض يفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه، كما ينمحي الضعيف في جنب القوي، (وتشبكها عند هيجان الغبار فينظر من وراء شباك الهداب، واشتباكها يمنع دخول الغبار ولا يمنع الإبصار، وأما البعوض فخلق له حدقتين مصقلتين من غير أجفان وعلمها كيفية التصقيل باليدين) ، ولكنه ليس ظاهرا لبادئ النظر، كما يظهر من الذباب (ولأجل ضعف إبصارها تراها تتهافت) وتتساقط (على السراج؛ لأن بصرها ضعيف، فهي تطلب ضوء النهار، فإذا رأى المسكين ضوء السراج بالليل ظن أنه في بيت مظلم وأن السراج كوة من البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فلا يزال يطلب الضوء ويرمي بنفسه إليه، فإذا جاوزه ورأى الظلام ظن أنه لم يصب الكوة ولم يقصدها على السداد فيعود إليه مرة أخرى إلى أن يحترق) ، وإليه أشار القائل وأحسن:


لهيب الخد حين بدا لطرفي     هوى قلبي عليه كالفراش
فأحرقه فصار عليه خالا     وها أثر الدخان على الحواشي

(ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها، فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الآدمي في الإكباب [ ص: 591 ] على شهوات الدنيا صورة الفراش) وهي ذباب مثل البعوض واحده فراشة (في التهافت على النار؛ إذ تلوح للآدمي أنوار الشهوات من حيث ظاهر صورتها، ولا يدري أن تحتها السم الناقع القاتل، فلا يزال يرمي نفسه عليها إلى أن ينغمس فيها ويتقيد بها ويهلك هلاكا مؤبدا، فليت كان جهل الآدمي كجهل الفراش بأنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال، والآدمي يبقى في النار أبد الآباد، أو مدة مديدة) ، وقال المصنف في موضع آخر: من الحيوان ما إذا شاهد شيئا حفظه وارتسمت صورته في ذهنه، فإذا رآه مرة أخرى عرفه كالدابة ترى الشعير والعصا، ومنه ما إذا شاهد شيئا لم يحفظه ولم يرتسم عند صورته كالفراش؛ فإنه يجد المصباح فيرمي بنفسه فيه ويجد حرارته ثم يعود ويرمي بنفسه إليه، ولو ارتسمت عنده صورته لما عاد إليه ا.ه .

(ولذلك كان ينادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: إني ممسك بحجزكم عن النار، وأنتم تتهافتون فيها تهافت الفراش) .

قال العراقي: متفق عليه من حديث أبي هريرة: مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا، فجعلت الدواب والفراش يقعن، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقتحمون فيه. لفظ مسلم، واقتصر البخاري على أوله، ولمسلم من حديث جابر: وأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي، وقد تقدم، قلت: لفظ المتفق عليه من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: مثلي كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل بحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم من النار هلم من النار، فتغلبوني تقتحمون فيها.

ورواه كذلك أحمد والترمذي، ولفظ حديث جابر عند مسلم من طريق همام عن أبي هريرة: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الفراش والجنادب يقعن فيها، وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي. ورواه كذلك الطيالسي وأحمد.

وقوله: بحجزكم، بضم الحاء المهملة وفتح الجيم، جمع حجزة، بالضم، وهي معقد الآزار والسراويل، وإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه. قال النووي في شرح مسلم: مقصود الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منع إياهم وقبضه على مواضع المنع منه بتساقط الفراش في نار الدنيا بهواه وضعف تميزه، فكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك بجهله، وقال أبو العباس القرطبي في شرحه: هو مثل لاجتهاد نبينا -صلى الله عليه وسلم- في نجاتنا وحرصه على تخليصنا من المهلكات التي بين أيدينا ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا، وقال القاضي أبو بكر بن العربي: هذا مثل غريب كثير المعاني المقصود منه أن الله ضرب مثلا لجهنم وما ركب من الشهوات المستدعية لها المقتضية للدخول فيها، وما نهى عنها وتوعد عليها وأنذرها وذكر بذلك تغلب الشهوات على التقحم باسم أنها مصالح ومنافع، وهي نكتة الأمثال؛ فإن الخلق لا يأتون ذلك على قصد الهلكة وإنما يأتونه باسم النجاة والمنفعة كالفراش تقتحم الضياء ليس لتهلك فيه ولكنها تأنس به وهي لا تبصر بحال، حتى إنها في ظلمة فتعتقد أن الضياء كوة تستظهر فيها النور فتقصدها لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر، وذلك هو الغالب من أحوال الخلق، أو كله. اهـ .

وقد جاء ذكر تهافت الفراش في حديث آخر رواه البيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار، ألا إن كل كذب مكتوب على ابن آدم كذبا لا محالة، إلا أن يكذب الرجل في الحرب.. الحديث .

ورواه كذلك ابن جرير والخرائطي في مساوئ الأخلاق، وروى ابن لال من حديث أسماء بنت يزيد: ما لي أراكم تتابعون في الكذب كما تتابع الفراش في النار؟! .

التالي السابق


الخدمات العلمية