إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله سبحانه .

اعلم أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى ، وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول ، وترى الأمر بالضد من ذلك ، فلا بد من بيان السبب فيه .

وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها لمعنى لا تفهمه إلا بمثال ، وهو أنا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط مثلا كان كونه حيا عندنا من أظهر الموجودات ، فحياته وعلمه وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة ؛ إذ صفاته ؛ الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه ، وكل ذلك لا نعرفه ، وصفاته الظاهرة لا نعرف بعضها ، وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته : وغير ذلك من صفاته .

أما حياته وقدرته وإرادته وعلمه وكونه حيوانا فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته ؛ فإن هذه الصفات .

لا تحس : بشيء من الحواس الخمس ثم لا يمكن أن نعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته : فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواه لم نعرف به صفته فما عليه إلا دليل واحد ، وهو مع ذلك جلي واضح ووجود الله تعالى وقدرته وعلمه وسائر صفاته يشهد له بالضرورة كل ما نشاهده وندركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض ، بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا ، وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس ، ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة ، وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد ، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته .

والموجودات المدركة لا حصر لها ، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس لها يشهد إلا شاهد واحد ، وهو ما أحسسنا به من حركة يده ، فكيف لا يظهر عندنا ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وأنها تحتاج إلى موجد ومحرك لها يشهد بذلك ، أولا : تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة فإنا ؛ نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها ، كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها ولكن لما لم يبق في الوجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد ومعرف عظم ظهوره ؛ فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه .

فإن ما تقصر عن فهمه عقولنا فله سببان أحدهما خفاؤه في نفسه وغموضه وذلك لا يخفى مثاله والآخر ما يتناهى وضوحه وهذا كما أن الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار واستتاره ولكن لشدة ظهوره ، فإن بصر الخفاش ضعيف يبهره نور الشمس إذا أشرقت فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره ، فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره .

فكذلك عقولنا ضعيفة وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول ، حتى لم يشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السموات والأرض ، فصار ظهوره سبب خفائه .فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره .


(بيان السبب في قصور أفهام الخلق عن معرفة الله تعالى)

(اعلم) وفقك الله تعالى (أن أظهر الموجودات وأجلاها هو الله تعالى، وكان هذا يقتضي أن تكون معرفته أول المعارف وأسبقها إلى الأفهام وأسهلها على العقول، وترى الأمر بالضد من ذلك، فلا بد من بيان السبب فيه، وإنما قلنا إنه أظهر الموجودات وأجلاها المعنى) تقدمت الإشارة إليه، وحاصله أن المحبة هي الوصلة بين العبد وبين الله تعالى في الدنيا والآخرة؛ إذ العارف لا يفارق المعروف، كما لا يريد عنه بدلا؛ لأن معرفة الله ألذ المعارف وألذ الأشياء وأشهاها للقلوب؛ لأن كل ذات جميلة على اختلاف أنواعها ومراتبها لا يميل إليها البصر أو البصيرة إلا وهي تشهد كمال خالقها وكمال صانعها، وكلما كانت الصنعة شريفة جميلة دلت على شرف ذات الخالق وكمال صفاته من العلم والحكمة والقدرة، فإن كانت القلوب تميل إلى الذوات الجميلة وتلتذ بإدراكها؛ فالتذاذها بالأشرف أشرف وبالأكمل أكمل، ولمعنى هذا سبق النظر إلى الخالق قبل الخلق، وهذا لا يكون إلا لمن غلبت روحانيته على جثمانيته وإلا فمن غلبت جثمانيته على روحانيته سبق نظره إلى الخلق دون الخالق وانعدم التذاذه بالعلوم والمعارف، وهو جل الأسباب المانعة من معرفة الله تعالى، وإلا فمعرفة الله أظهر المعارف ووجوده أظهر الموجودات، وما مثالنا في الغفلة عن معرفة الله ووجوده إلا كمن غفل عن وجود نفسه وكونه موجودا حيا، وذلك [ ص: 596 ] إما لألفة بوجوده، أو شغل قلبه بهم من المهمات أذهله عن وجوده، وإلا فمن ظهر له وجود نفسه ظهر له وجود الله تعالى؛ لأن نفسه ونفس العالم أثر من آثار قدرة الله تعالى، وهذا المعنى (لا تفهمه إلا بمثال، وهو أنا إذا رأينا إنسانا يكتب أو يخيط مثلا كان كونه حيا عندنا من أظهر الموجودات، فحياته وعمله وقدرته وإرادته للخياطة أجلى عندنا من سائر صفاته الظاهرة والباطنة؛ إذ صفاته الباطنة كشهوته وغضبه وخلقه وصحته ومرضه، وكل ذلك لا نعرفه، وصفاته الظاهرة لا نعرف إلا بعضها، وبعضها نشك فيه كمقدار طوله واختلاف لون بشرته) أي: ظاهر جلده (وغير ذلك من صفاته. أما حياته وقدرته وعلمه وإرادته وكونه حيوانا فإنه جلي عندنا من غير أن يتعلق حس البصر بحياته وقدرته وإرادته؛ فإن هذه الصفات لا تحس) أي: لا تدرك (بشيء من الحواس الخمس) الظاهرة (ثم لا يمكن أن تعرف حياته وقدرته وإرادته إلا بخياطته وحركته) أي: حركة يده (فلو نظرنا إلى كل ما في العالم سواء لم نعرف به صفته فما عليه إلا دليل واحد، وهو مع ذلك جلي واضح وجود الله وقدرته وعلمه وسائر صفاته تشهد له بالضرورة كل ما تشاهده وتدركه بالحواس الظاهرة والباطنة من حجر ومدر ونبات وشجر وحيوان وسماء وأرض وكوكب وبر وبحر ونار وهواء وجوهر وعرض، بل أول شاهد عليه أنفسنا وأجسامنا وأوصافنا وتقلب أحوالنا وتغير قلوبنا وجميع أطوارنا في حركاتنا وسكناتنا، وأظهر الأشياء في علمنا أنفسنا ثم محسوساتنا بالحواس الخمس، ثم مدركاتنا بالعقل والبصيرة، وكل واحد من هذه المدركات له مدرك واحد وشاهد واحد ودليل واحد، وجميع ما في العالم شواهد ناطقة وأدلة شاهدة بوجود خالقها ومدبرها ومصرفها ومحركها ودالة على علمه وقدرته ولطفه وحكمته، والموجودات المدركة لا حصر لها، فإن كانت حياة الكاتب ظاهرة عندنا وليس يشهد لها إلا شاهد واحد، وهو ما أحسسنا به من حركة يده، فكيف لا يظهر عندنا ما لا يتصور في الوجود شيء داخل نفوسنا وخارجها إلا وهو شاهد عليه وعلى عظمته وجلاله) وعظيم قدرته؟! (إذ كل ذرة فإنها تنادي بلسان حالها أنه ليس وجودها بنفسها ولا حركتها بذاتها وإنها تحتاج إلى موجد محرك لها يشهد بذلك، أولا: تركيب أعضائنا وائتلاف عظامنا ولحومنا وأعصابنا ومنابت شعورنا وتشكل أطرافنا وسائر أجزائنا الظاهرة والباطنة؛ فإنا نعلم أنها لم تأتلف بأنفسها، كما نعلم أن يد الكاتب لم تتحرك بنفسها ولكن لما لم يبق في الموجود شيء مدرك ومحسوس ومعقول وحاضر وغائب إلا وهو شاهد) عليه ودليل (ومعرف عظم ظهوره؛ فانبهرت العقول ودهشت عن إدراكه؛ فإن ما يقصر عن فهمه عقولنا فله سببان إحداهما خفاؤه في نفسه وغموضه) ودقته (وذلك لا يخفى مثاله والآخر ما يتناهى وضوحه) إلى الغاية (وهذا كما أن الخفاش) ؛ بضم وتشديد طائر معروف، قيل: هو الوطواط، غريب الشكل والوصف (يبصر بالليل) ويلتمس الوقت الذي لا ضوء فيه (ولا يبصر بالنهار لا لخفاء النهار واستتاره) لكن لشدة ظهوره وكثرة انتشار ضوئه (مع ضعف بصره، فإن بصر الخفاش ضعيف [ ص: 597 ] يبهره نور الشمس إذا أشرقت) وكذا ضوء القمر، وفيه يقول الشاعر:


مثل النهار يزيد إبصار الورى نورا يعمي أعين الخفاش

(فيكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سببا لامتناع إبصاره، فلا يرى شيئا إلا إذا امتزج الضوء بالظلام وضعف ظهوره) وهو قرب الغروب، وفي هذا الوقت ينتشر البعوض يطلب القوت، وهو دماء الإنسان وينتشر الخفاش يطلب البعوض (فكذلك عقولنا ضعيفة) لا شعاع لها (وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الإشراق والاستنارة وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم يشذ عن ظهره ذرة من ملكوت السموات والأرض، فصار ظهوره سبب خفائه، وفي هذا المعنى أنشدني شيخنا المرحوم العارف وجيه الدين عبد الرحمن بن مصطفى العيدروسي الحسني قدس الله سره في ثامن عشر رجب سنة 1133 بالطائف لبعضهم) :


ذكر الإله الزم هديت لذكره     فيه القلوب تطيب والأفواه
واجعل حلاك تقاه إن أخا التقى     يا صاح من كانت حلاه تقاه
واستعمل الأفكار في ملكوته     مستغرقا في الكشف عن معناه
ولتخلع النعلين خلع محقق     خلى عن الكونين في مسراه
ولتفن حتى عن فنائك إنه     عين البقاء وعند ذاك تراه
وإذا بدا فاعلم بأنك لست هو     كلا ولا أيضا تكون سواه
شيان ما اتحدا ولكن هاهنا     سر يضيق نطاقنا عما هو
يا سامعا ما قد أشرت له أما     قلب يفكر ما وعت أذناه
أزل الحجاب حجاب قلبك ينكشف     لك سر ما قد غاب عنك سناه
إن الإله أجل ما متعرف     من لا يراه قد استبان عماه
أنى يغيب وليس يوجد غيره     لكن شديد ظهوره أخفاه

(فسبحان من احتجب بإشراق نوره واختفى عن البصائر والأبصار بظهوره) وفي حقائق الأسماء للشيخ الأكبر قدس الله سره، وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه، قال: فاشترك نوع الإنسان مع الملأ الأعلى في الطلب واختلفا في الكيفية؛ لأنهم يطلبونه بالأنوار العقلية لكونهم عقولا مجردة، وهو - جلت عظمته - محتجب عن العقول؛ فأنى لهم سبيل الوصول إلى أسرار الذات وحقائق الصفات؟! انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية