إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان معنى الشوق إلى الله تعالى .

اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى وكون العارف مضطرا إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار .

أما الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب ؛ فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته .

لا محالة ، فأما الحاصل الحاضر فلا يشتاق إليه ؛ فإن الشوق طلب وتشوف إلى أمر والموجود لا يطلب ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه ، فأما ما لا يدرك أصلا فلا يشتاق إليه فإن من لم ير شخصا ولم يسمع وصفه ولا يتصور أن يشتاق إليه وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه ، وكمال الإدراك بالرؤية فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوما للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه وهو من ، وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات .

فنقول مثلا : من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية ، فلو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه ، ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية ؛ فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله ، فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته ، وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه ، والثاني : أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلا ولا سائر محاسنه فيشتاق لرؤيته ، وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية ، ولكنه يعلم أن له عضوا وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط .

والوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى ، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين ، فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يكون متضحا غاية الاتضاح ، بل يكون مشوبا بشوائب التخيلات ؛ فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات ، وهي مكدرات للمعارف ومنغصات وكذلك ينضاف إليها شواغل الدنيا فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة وتمام إشراق التجلي ولا يكون ذلك إلا في الآخرة، وذلك بالضرورة يوجب الشوق فإنه منتهى محبوب العارفين .

فهذا أحد نوعي الشوق وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحا ما الثاني أن الأمور الإلهية لا نهاية لها وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى ، ويعلم أن ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر ؛ فلا يزال متشوقا إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلا لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة .

والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يسكن في الدنيا .

وقد كان إبراهيم بن أدهم من المشتاقين فقال : قلت ذات يوم : يا رب : إن أعطيت أحدا من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق ، قال : فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال : يا إبراهيم ، أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي ؟! وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه ؟! فقلت : يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول ، فقال : قل : اللهم رضني بقضائك ، وصبرني على بلائك ، وأوزعني شكر نعمائك فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة .

وأما الشوق الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى ، وهو محال ؛ لأن ذلك لا نهاية له .

ولا يزال العبد عالما بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح له فلا يسكن قط شوقه لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال ، فهو يجد لذلك شوقا لذيذا لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية إلى غير نهاية فلا يزال النعيم واللذة متزايدا أبد الآباد .

وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلا عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل ، وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا أصلا فإن ، كان ذلك غير مبذول فيكون النعيم واقفا على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمرا على الدوام .

وقوله سبحانه وتعالى : نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا محتمل لهذا المعنى ، وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق فيكون هو المراد بتمامه وقوله تعالى : انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا يدل على أن الأنوار لا بد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقا ، فأما أن يتجدد نور فلا والحكم في هذا برجم الظنون مخطر ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علما ورشدا ويرينا الحق حقا .

فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه .

وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى فمما ، اشتهر من دعاء رسول الله : صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقول : اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك وقال أبو الدرداء لكعب أخبرني عن أخص آية يعني في التوراة ، فقال : يقول الله تعالى : طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقا قال ومكتوب : إلى جانبها : من طلبني وجدني ، ومن طلب غيري لم يجدني ، فقال أبو الدرداء : أشهد إني لسمعت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : يقول هذا .


(بيان معنى الشوق إلى الله تعالى)

وهو ثمار المحبة، وسئل ابن عطاء: الشوق أعلى أم المحبة؟ فقال: المحبة؛ لأن الشوق منها يتولد، وهو أفضل من الأنس؛ ولذلك قدمه؛ لأن الأنس قصر نظره على ما انكشف له من جمال المحبوب ولم يمتد نظره إلى استكشاف ما غاب عنه، والمشتاق كالعطشان الذي لا ترويه البحار لمعرفته بأن الذي انكشف له من الأمور الإلهية بالنسبة إلى ما غاب عنه كالذرة بالنسبة إلى سعة الوجود، لله المثل الأعلى .

(اعلم) وفقك الله (أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق) إلى الله تعالى (إذ لا يتصور الشوق إلا إلى المحبوب) فإذا انتفت المحبة انتفى ما هو من ثمارها؛ إذ لا محالة أن الثمرة تتبع للمثمر (ونحن نثبت وجوب الشوق إلى الله تعالى) بإيجاب أصل المحبة (وكون العارف مضطرا إليه بطريق الاعتبار فيكفي في إثباته ما سبق في إثبات الحب؛ فكل محبوب يشتاق إليه في غيبته لا محالة، فأما الحاصل الحاضر فلا يشتاق إليه؛ فإن الشوق طلب وتشوق إلى طلب أمر) ونزول النفس إليه ( والموجود لا يطلب) ولا تتشوق إليه النفس (ولكن بيانه أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، فأما ما لا يدرك أصلا فلا يشتاق إليه) لانقطاع الأطماع منه (فإن من لم ير شخصا ولم يسمع وصفه لا يتصور أن يشتاق إليه وما أدرك بكماله لا يشتاق إليه، وكمال الإدراك بالرؤية) بحاسة البصر (فمن كان في مشاهدة محبوبه مداوما للنظر إليه لا يتصور أن يكون له شوق) .

روى القشيري عن بعضهم: الشوق لهيب ينشأ بين أثناء الحشى يسنح على الفرقة، فإذا وقع اللقاء طفئ، وإذا كان الغالب على الأسرار مشاهدة المحبوب لم يطرقها الشوق، وقيل لبعضهم: هل تشتاق؟ فقال: لا؛ إن الشوق إلى غائب، وهو حاضر (ولكن الشوق إنما يتعلق بما أدرك من وجه ولم يدرك من وجه، ومن وجهين لا ينكشف إلا بمثال من المشاهدات؛ فنقول مثلا: من غاب عنه معشوقه وبقي في قلبه خياله فيشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية، فلو أغمي عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يتصور أن يشتاق إليه، ولو رآه لم يتصور أن يشتاق في وقت الرؤية؛ فمعنى شوقه تشوق نفسه إلى استكمال خياله، فكذلك قد يراه في ظلمة بحيث لا ينكشف له حقيقة صورته فيشتاق إلى استكمال رؤيته، وتمام الانكشاف في صورته بإشراق الضوء عليه، والثاني: أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره مثلا ولا سائر محاسنه فيشتاق إلى استكمال رؤيته، وإن لم يرها قط ولم يثبت في نفسه خيال صادر عن الرؤية، ولكنه يعلم أن له عضوا وأعضاء جميلة ولم يدرك تفصيل جمالها بالرؤية فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط، والوجهان جميعا متصوران في حق الله تعالى، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين، فإن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كانت في غاية الوضوح) عندهم (فكأنه من وراء ستر رقيق فلا يتضح غاية الاتضاح، بل يكون مشوبا بشوائب التخيلات؛ فإن الخيالات [ ص: 603 ] لا تفتر في هذا العالم عن التمثيل والمحاكاة لجميع المعلومات، وهي مكدرات للعارف ومنقصات) وأيضا فإن الصور تتنوع عليهم في تجليات المشاهد مع أحدية العين في نفس الأمر (وكذلك يضاف إليها شواغل الدنيا وصوارفها) فإنما كمال الوضوح بالمشاهدة (العيانية) وتمام إشراق التجلي، ولا يكون ذلك إلا في الآخرة (حين يبلغ الكتاب أجله) وذلك بالضرورة يوجب الشوق؛ فإنه منتهى محبوب العارفين؛ فهذا أحد نوعي الشوق (وهو استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحا ما) الثاني: أن الأمور الإلهية لا نهاية لها ولا حد لها ينتهى إليه (وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة) خفية المدرك (والعارف يعلم وجودها وكونها معلومة لله تعالى، ويعلم ما غاب عن علمه من المعلومات أكثر مما حضر؛ فلا يزال متشوقا إلى أن يحصل له أصل المعرفة فيما لم يحصل مما بقي من المعلومات التي لم يعرفها أصلا لا معرفة واضحة ولا معرفة غامضة) ، كما هو مقتضى الترقي والزيادة (والشوق الأول ينتهي في الدار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ولا يتصور أن يسكن) هذا الشوق (فى الدنيا فقد كان إبراهيم بن أدهم) -رحمه الله تعالى- (من المشتاقين) وكانت له أماكن من المحبة رفيعة ومكاشفات في القرب علية (فقال: قلت ذات يوم: يا رب إن أعطيت أحدا من المحبين لك ما يسكن به قلبه قبل لقائك فأعطني ذلك فقد أضر بي القلق، قال: فرأيت في النوم أنه أوقفني بين يديه وقال: يا إبراهيم، أما استحييت مني أن تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي؟! وهل يسكن المشتاق قبل لقاء حبيبه؟!) ، أي: هل يستريح المحب إلى غير معشوقه؟! قال: (فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدر ما أقول فاغفر لي وعلمني ما أقول، فقال: قل: اللهم رضني بقضائك، وصبرني على بلائك، وأوزعني شكر نعمائك) . نقله صاحب القوت، ورواه أبو محمد السراج في مصارع العشاق بسنده إلى إبراهيم بن عبد الله البلخي عن إبراهيم بن أدهم قال: وجدت يوما راحة وطاب قلبي لحسن صنع الله واختياره لي، فقلت: .. فساقه إلى قوله: فلم أدر ما أقول، وقد لاحظ هذا المعنى القطب أبو الحسن الشاذلي -قدس سره- فأدرج هذه الكلمات في حزبه الكبير مفرقة في موضعين منه، وفيه إشعار بأن الأدب مع الله مطلوب في كل حال؛ فإن الله تعالى قد يعرض عن محبيه تعزرا ليزعجهم الشوق إليه ويقلقهم الأسف عليه ويستخرج منهم لطف التملق له، ثم ينظر إليهم في إعراضه عنهم من حيث لا يعلمون لينظروا إليه بحيث يعلمون فيسكنون بالأدب بين يديه (فإن هذا الشوق يسكن في الآخرة، وأما الشوق الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة من جلال الله تعالى وصفاته وحكمته وأفعاله ما هو معلوم لله تعالى، وهو محال؛ لأن ذلك لا نهاية له، ولا يزال العبد عالما بأنه بقي من الجمال والجلال ما لم يتضح) لهاتضاحا تاما (فلا يسكن شوقه لا سيما من يرى فوق درجته درجات كثيرة إلا أنه تشوق إلى استكمال الوصال مع حصول أصل الوصال، فهو يجد لذلك شوقا لذيذا لا يظهر فيه ألم ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر متوالية) ، أي: متتابعة (إلى غير نهاية فلا يزال النعيم واللذة متزايدا أبد الآباد، وتكون لذة ما يتجدد من ألطاف النعيم شاغلا عن الإحساس بالشوق إلى ما لم يحصل، وهذا بشرط أن يمكن حصول الكشف فيما لم يحصل به [ ص: 604 ] الكشف في الدنيا أصلا، فإذا كان غير مبذول فيكون النعيم واقفا على حد لا يتضاعف ولكن يكون مستمرا على الدوام، وقوله سبحانه وتعالى: نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا محتمل لهذا المعنى، وهو أن ينعم عليه بإتمام النور مهما تزود من الدنيا أصل النور) واكتسبه منها (ويحتمل أن يكون المراد به إتمام النور في غير ما استنار في الدنيا استنارة محتاجة إلى مزيد الاستكمال والإشراق فيكون هو المراد بتمامه) والأول أوفق بلفظ الإتمام (وقوله تعالى: انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا يدل على أن الأنوار لا بد وأن يتزود أصلها في الدنيا ثم يزداد في الآخرة إشراقا، فأما أن يتجدد نور) لم يكن أصله في الدنيا (فلا) ومن هنا قيل: الدنيا مزرعة الآخرة، المرء مع من أحب وله ما اكتسب (والحكم في هذا برجم الظنون مخطر) ؛ لأنه من الأمور الغيبية وليس للعقل فيها مجال (ولم ينكشف لنا فيه بعد ما يوثق به) ويعتمد عليه، وإنما نحن على بحر التمني (فنسأل الله تعالى أن يزيدنا علما ورشدا) إلى الصواب (ويرينا الحق حقا) ويرزقنا اتباعه (فهذا القدر من أنوار البصائر كاشف لحقائق الشوق ومعانيه، وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى، فما اشتهر من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يقول: اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك) رواه الطبراني من حديث فضالة بن عبيد بلفظ: اللهم إني أسألك الرضا بالقضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.

وروى ابن أبي شيبة وأحمد من حديث عمار بن ياسر بلفظ: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني ما علمت الوفاة خيرا لي، اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك الإخلاص في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين.

وقال القشيري في الرسالة: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي، أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، حدثنا ابن أبي قماش، حدثنا إسماعيل بن زرارة، عن حماد بن زيد، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقلت: خففت يا أبا اليقظان! فقال: وما علي من ذلك؟! فلقد دعوت الله سبحانه بدعوات سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات، فقال: اللهم بعلمك الغيب.. فساقه، إلا أنه قال: كلمة الحق بعد كلمة الإخلاص، وقال: نعيما لا يبيد بدل لا ينفد، وقال: بعد القضاء، كما عند المصنف والباقي سواء، وقد رواه أيضا ابن النجار في تاريخه هكذا، وروى أبو نعيم في الحلية من حديث الهيثم بن مالك الطائي: اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا في دنياهم فاقرر عيني من عبادتك (وقال أبو الدرداء) -رضي الله عنه- (لكعب) الأحبار -رحمه الله تعالى- (أخبرني عن أخص آية يعني في التوراة، فقال: يقول -عز وجل-: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقا) ولفظ القوت: طال شوق أوليائي إلي وأنا إليهم أشوق. (قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، فقال أبو الدرداء: أشهد إني لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا) نقله صاحب القوت، وأغفله العراقي، والذي رواه أبو الدرداء مرفوعا هو قوله: يقول الله تعالى: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني، (وفي أخبار داود -عليه السلام- أن الله تعالى قال: يا داود بلغ أهل أرضي أني حبيب لمن أحبني، وجليس لمن جالسني، وأنيس لمن أنس بذكري) ولفظ القوت: مؤانس لمن أنس بذكري، وأنيس لمن أنس بي (وصاحب لمن صاحبني ومختار لمن اختارني [ ص: 605 ] ومطيع لمن أطاعني، ما أحبني عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسي وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقي، من طلبني بالحق وجدني ومن) طلبني بغير حق، أو (طلب غيري لم يجدني؛ فارفضوا يا أهل الأرض ما أنتم عليه من غرورها، وهلموا إلى كرامتي ومصاحبتي ومجالستي، وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع في محبتكم؛ فإني خلقت طينة أحبائي من طينة إبراهيم خليلي وموسى نجيي ومحمد صفيي، وخلقت قلوب المشتاقين من نوري ونعمتها بجلالي) قال صاحب القوت بعد أن ذكره: فهذا في مقام خلة وحال مطلوب، وهو من وصف مقرب ونعت محبوب، ومن صدر عن مقام محب بعد وروده رفع إلى هذا المقام؛ لأنه مقام محبوب (وروي عن بعض السلف) من العلماء القدماء (أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين: إن لي عبادا من عبادي يحبوني وأحبهم ويشتاقون إلي وأشتاق إليهم ويذكروني وأذكرهم وينظرون إلي وأنظر إليهم فإن حذوت) ، أي اتبعت وسلكت (طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك، قال: يا رب وما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي الشفيق غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب، فإذا جنهم الليل) ، أي: سترهم (واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم، وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي، فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك، وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد، بعيني ما يتحملون من أجلي وبسمعي ما يشتكون من حبي، أول ما أعطيهم ثلاث: أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني، كما أخبر عنهم، والثانية: لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللتها لهم، والثالثة: أقبل بوجهي عليهم فترى من أقبلت بوجهي عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه) قال صاحب القوت بعد أن ذكره بطوله: فهؤلاء الذين أقبل الله تعالى بوجهه عليهم هم الذين أحبوه بكل قلوبهم فكان، كما قال: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وكان كما قال: جزاء وفاقا ، فنظروا إلى وجهه بنور وجهه فتجلى بوصف محبوب فأحبوه، كما روينا عنه في خبر موسى -عليه السلام-: إني إذا نظرت إلى عبدي بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها؛ فالله تعالى لا ينظر إلى الأجسام والنفوق؛ لأنهما من الدنيا، وهو لا ينظر إليها إنما ينظر إلى الأعمال والقلوب؛ لأنهما من الآخرة، وهو ينظر إليها بعينه فتزداد إشراقا وحسنا عن نوره وحسنا، ثم لا ينظر إلا إلى قلوب الموقنين وأعمالهم، فبنوره رأوه، فأما العموم فقلوبهم كأجسادهم، وأعمالهم شبه قلوبهم؛ فالله تعالى ينظر إليهم كنظره إلى الدنيا بعين التدبير والتقدير؛ فمعارفهم ظاهر التوحيد عن ظاهر الصفات والأسماء؛ فهم عرفوه بالملك والحكمة وشهدوه بالقدم والأزلية عن معنى ما نظر به إليهم؛ فسبحان من وسع كل شيء رحمة وعلما! وسبحان من نظر إلى من يحب بالوصف الذي يحب فأحبوه عن نظره! فأما الشوق فإنه مقام رفيع عن مقام المحبة، وليس يبقي الشوق للعبد راحة ولا نعيما في غير مشوقه، والمشتاقون مقربون بما أشهدوا من الشوق، وهم المأمور بطلبهم الموجود الحبيب عندهم مثوبة منه لهم لما شوقهم إليه في قوله لموسى -عليه السلام-: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي المشتاقين من أجلي المحبين، ثم قال: فمقام الشوق في المحبة يجل عن الوصف ويتجاوز في العلو والفضل كل عرف، ولا يصلح أن نصفه إلا أنا نذكر من ذلك ما سمعناه نقلا؛ فلا تنكرن لأحباء الله وأوليائه فضلا، ولا تمزجن فيه بالتدبير والقياس عقلا، فقد جاوز مقامهم كل عقل، كما اشتمل حالهم ووجدهم بصبوهم كل فضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية