إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
فإن قلت : فالعصيان ، هل يضاد أصل المحبة ؟ فأقول : إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها فكم من إنسان يحب نفسه ، وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره ، وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه ، ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة قد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة ويدل عليه ما روي أن نعيمان كان يؤتى به رسول الله : صلى الله عليه وسلم : في كل قليل فيحده في معصية يرتكبها إلى أن أتى به يوما فحده فلعنه رجل وقال : ما أكثر ما يؤتى به رسول الله : صلى الله عليه وسلم : فقال : صلى الله عليه وسلم : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة : نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب ، وقد قال بعض العارفين إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب الله تعالى حبا متوسطا ، فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي وبالجملة في دعوى المحبة خطر ولذلك قال الفضيل إذا قيل لك : أتحب الله تعالى ؟ فاسكت فإنك إن ، قلت : لا ؛ كفرت ، وإن قلت : نعم ، فليس وصفك وصف المحبين ؛ فاحذر المقت ولقد قال بعض العلماء : ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة ، ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك .


(فإن قلت: فالعصيان، هل يضاد أصل المحبة؟ فأقول: إنه يضاد كمالها ولا يضاد أصلها) وإليه ذهب أبو طالب المكي وتبعه المصنف وقالا: (فكم من إنسان يحب نفسه، وهو مريض ويحب الصحة ويأكل ما يضره مع العلم بأنه يضره، وذلك لا يدل على عدم حبه لنفسه، ولكن المعرفة قد تضعف والشهوة قد تغلب فيعجز عن القيام بحق المحبة) قالا: (ويدل عليه ما روي) في الصحيح (أن نعيمان) بن عمرو بن رفاعة الأنصاري (كان يؤتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل قليل فيحده في كل معصية يرتكبها) وهي أنه كان يصيب من الشراب، كما ذكره الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح (إلى أن أتى به يوما فحده) حد الشرب (فلعنه رجل) يقال اسمه عمير، كما بينه الحافظ في الفتح (وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا تلعنه) وعند الزبير ابن بكار: لا تفعل (فإنه يحب الله ورسوله) رواه البخاري من طريق وهيب عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أتي بالنعيمان، أو ابن النعيمان، كذا بالشك، والراجح النعيمان بلا شك كما عند أحمد، ورواه بالشك أيضا ابن سعد في الطبقات، وقد تقدم ما يتعلق به (فلم يخرجه بالمعصية عن المحبة) أي: عن أصلها، قال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي: وقد رأيت أيضا في كتاب الله ما يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة الآية. فلم تخرجه الكبيرة عن اسم الهجرة (نعم تخرجه المعصية عن كمال الحب، وقد قال بعض العارفين) مشيرا إلى ذلك (إذا كان الإيمان في ظاهر القلب أحب لله تعالى حبا متوسطا، فإذا دخل سويداء القلب أحبه الحب البالغ وترك المعاصي) ولفظ القوت: إذا كان الإيمان في ظاهر القلب يعني على الفؤاد كان المؤمن يحب الله حبا متوسطا، فإذا دخل الإيمان في باطن القلب، وكان في سويدائه أحبه الحب البالغ، ومحبة ذلك أن ينظر، فإن كان يؤثر حب الله على جميع هواه ويغلب محبته على هوى العبد حتى تصير محبة الله هي محبة العبد من كل شيء فهو محب لله حقا، كما أنه مؤمن به حقا عن مشاهدة اليقين الذي يغلب رؤيته على رؤية الحق فيشهده في كل شيء ويكون واجدا به دون كل شيء؛ إذ قد تجلى لمن أيقن بكل شيء، فإن رأيت قلبك دون ذلك فلك من ذوق محبة سواه بقدر ما لك من شرب اليقين ممزوجا بشهادة الخلق والوجد بهم دون الخالق، وذلك أيضا عن خالص شهادة التوحيد، ومن المحبة بقدر ذلك له في مقامات الخالصين، أو مشوبا بالشرك الخفي بالنظر إلى الأواسط والثواني في إخلاص عموم المخلصين، وقال بعض العلماء: إن ظاهر القلب محل الإسلام وباطنه محل الإيمان، فمن هاهنا تفاوت المحبوب في المحبة لفضل الإيمان على الإسلام، وفضل الباطن على الظاهر، وفرق [ ص: 621 ] بعض علمائنا بين القلب والفؤاد، فقال: الفؤاد مقدم القلب وما استدق منه، والقلب أصله وما اتسع منه، وقال مرة في القلب تجويفات، فالتجويف الظاهر هو الفؤاد، وهو مكان العقل، والتجويف الباطن هو القلب، وفيه السمع والبصر وعنه يكون الفهم والمشاهدة، وهو محل الإيمان، وقد قال الله تعالى: كتب في قلوبهم الإيمان ، وقال: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فمحبة الإسلام مفترضة على الخلق وهي متصلة بأداء الفرائض واجتناب المحارم طاعة لله ومحبة له، فأما محبة المقربين ففي مشاهدة معاني الصفات بعد معرفة أخلاق الذات؛ فعبادة أولئك بالعادات وللحاجات، وعبادة المحبين للإجلال والتعظيم، وهي مخصوصة لمخصوصين، والأصل في هذا أن المحبة عن المعرفة، وإن المعرفة عموم وخصوص، فلخصوص العارفين خاصية المحبة ولعمومهم عموم المحبة. انتهى .

وقال الكمال محمد بن إسحاق الصوفي: والذي ترجح عندي أن العاصي يكون محبا حكما لا حقيقة، كما يطلق اسم الإيمان على النائم، فإنه مؤمن حكما لا حقيقة، وبهذه القاعدة ينكشف سر قوله -صلى الله عليه وسلم-: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن؛ لأن دخان الشهوة حجب نظره عن الوعد والوعيد؛ فصار كالغافل عن الإيمان كالنوم، فالغافل يسمى مؤمنا حكما لا حقيقة؛ لأن حقيقة الإيمان حضور العبد مع الله، أو شهوده للآيات الدالة على وجوده؛ فالغافل العاصي عن هذا بمعزل، والإنسان خلق في الأصل مجبولا على الغفلة، وعلى الرجوع إلى الأحوال البشرية، وإنما رحمة الشرع جاءت بتشريع العبادات وترتيبها في أوقات متقاربة ليرجع القلب بذلك إلى الله تعالى؛ فانقسم الناس في رجوعهم إلى الله تعالى، أو إلى الدنيا هذا الانقسام، (وبالجملة في دعوى المحبة خطر) عظيم، وقد قال بعض العلماء: إذا تم التوحيد تمت المحبة، وإذا جاءت المحبة تم التوكل فتم إيمانه وخلص فرضه وسمي ذلك يقينا (ولذلك قال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى- في فرض المحبة: (إذا قيل لك: أتحب الله تعالى؟ فاسكت، فإن قلت: لا؛ كفرت، وإن قلت: نعم، فليس وصفك وصف المحبين؛ فاحذر المقت) نقله صاحب القوت (ولذا قال بعض العلماء: ليس في الجنة نعيم أعلى من نعيم أهل المعرفة والمحبة، ولا في جهنم عذاب أشد من عذاب من ادعى المعرفة والمحبة ولم يتحقق بشيء من ذلك) نقله صاحب القوت، وزاد فقال: وقال عالم فوقه كل أهل المقامات يرجى أنه يعفى عنهم ويسمع لهم إلا من ادعى المعرفة والمحبة؛ فإنهم يطالبون بكل شعرة مطالبة وبكل حركة وسكون وكل نظرة وخطرة لله تعالى وبالله تعالى وفي الله تعالى ومع الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية