إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها : أن لا يتأسف على مما يفوته ما سوى الله عز وجل ويعظم تأسفه على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته ، فيكثر رجوعه عند الغفلات بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة قال بعض العارفين إن لله عبادا أحبوه واطمأنوا إليه ، فذهب عنهم التأسف على الفائت فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذ كان ملك مليكهم تاما ، وما شاء كان ، فما كان لهم فهو واصل إليهم وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم وحق المحب إذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب ويسأله ويقول : رب بأي ذنب قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتابعة الشيطان ؟! فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة وتكون هفوته سببا لتجدد ذكره وصفاء قلبه ، ومهما لم ير المحب إلا المحبوب ولم ير شيئا إلا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضا وعلم أن المحبوب لم يقدر له إلا ما فيه خيرته ، ويذكر قوله : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .


( ومنها) أي: ومن علامات المحبة (أن لا يتأسف على ما يفوته مما سوى الله عز وجل) أي يترك الأسف على كل فائت سوى الله -عز وجل- (ويعظم التأسف على فوت كل ساعة خلت عن ذكر الله تعالى وطاعته، فيكثر رجوعه عند الغفلات) إلى الله تعالى (بالاستعطاف والاستعتاب والتوبة) ونسيان حظوظ النفس بتذكار حقوق الرب تعالى (وقال) أبو الفضل الشكلي وغيره حكاية عن (بعض العارفين) أنه وصف المحبين، فقال (إن لله عبادا أحبوه واطمأنوا إليه، فذهب عنهم التأسف على الفائت فلم يتشاغلوا بحظ أنفسهم إذا كان ملك مليكهم تاما، وما شاء كان، فما كان لهم فهو واصل إليهم) لا محالة (وما فاتهم فبحسن تدبيره لهم) ولفظ القوت: فما كان لهم فهو موصله إليهم من جميع الأشياء، وما فات من إدراك غيرهم فبحسن تدبيره لهم (وحق المحب إذا رجع من غفلته في لحظته أن يقبل على محبوبه ويشتغل بالعتاب ويسأله ويقول: رب بأي ذنب [ ص: 625 ] قطعت برك عني وأبعدتني عن حضرتك وشغلتني بنفسي وبمتابعة الشيطان؟! فيستخرج ذلك منه صفاء ذكر ورقة قلب يكفر عنه ما سبق من الغفلة وتكون هفوته سببا لتجدد ذكره وصفاء قلبه، ومهما لم ير المحب إلا المحبوب ولم ير شيئا إلا منه لم يتأسف ولم يشك واستقبل الكل بالرضى وعلم أن المحبوب لم يقدر له إلا ما فيه خيرته، ويذكر قوله تعالى: وعسى أن تكرهوا شيئا، وهو خير لكم ) ولفظ القوت: وقد يحسن بالمريد المتحبب أن يكون يأسف على فوت ساعة وطرفة ذهبت عنه قليلا قليلا في غير ذكر مولاه، فأما المحب المحبوب فقد لاحت له الأعلام؛ فقل صبره عن الحبيب ومواصلته وملاطفته؛ فالواجب عليه أن يرجع إلى وارده فيسأله: لم قطعت برك عني ولم لم تدمه لي ولم تشوبه بالكدر ولم تدخل بيني وبينك الخلق؟! فإن كان صادقا في محبته فيستعمله محبوبه في الخير فيكون مكان الاستغفار من الغفلة معاتبة يستخرج بها أكثر من الذي فاته من الذكر، فتكون تلك الهفوة عليه بركة إن كان عاقبتها الاتصال والزيادة في القرب، والعبد المحب لله -عز وجل- مأسوف معلق هناك لا يدري ما حقيقة التوحيد غير أنه إذا أسف على فقد وحدانية التوحيد فزع من ذلك فرجع فوجد بقاء الواحد بالوحدانية، وانفراده في الصمدية فينسى نفسه، وذهب طعم كل ذكر كان ينعم به ولم ير فوت كل شيء، وذهب استبعاده في هذا الموضع حتى يستبعده المحب من مكان آخر فيرده إلى علم التوحيد، والتوحيد والحب بلاء كثير، والعباد قد ألفوا العبادة والذكر الطيب الذي يعقلون به، وأول التوحيد عند المحبين أن يعبدوا الله تعالى لوجهه حبا له لا خوفا من ناره ولا رغبة في جنته، فيكون الحبيب مرادهم والوصول إليه مناهم، حتى يرجع لهم على التعظيم والإجلال، فلا يرون نفوسهم تصلح للقائه فتحس القلوب فترجع بالهيبة والرهبة، فيعبدون الله -عز وجل- ويبقى الشوق والأنس، فأما الصدق والصبر والإخلاص والزهد، فهذه الأخلاق الشريفة كائنة معهم في سرهم ووصفهم لا تفارقهم ولا يخليهم منها محبوبهم، ولو أخلاهم مولاهم ما ذاقوا طعم شيء من هذه الخصال ولبطلت العبادات وانقطعت الطرق ولكانوا مكتفين به، ولكنه يدبرهم بأمره ويردهم إلى هذه الأحوال فيذوقون طعمها، كما يردهم إلى مصالح الجسم ومرافق العقل؛ فلذلك اسمهم الموحدون المشتاقون المحبون؛ لأنهم عبدوه وحده وأحبوه دون غيره واشتاقوا إليه لا سواه ولم يريدوا منه شيئا؛ إذ كان الله تعالى هو الغالب على همهم القاهر لقلوبهم الموجود في سرهم المالك لعقولهم، فلو وضع من نعيمهم ذرة على كل خائف وعابد لاحترقوا من نورهم، وهم أعلى الخليقة وليس فوقهم أحد. هذا نقلته من كلام الشكلي وغيره من العارفين. انتهى سياق صاحب القوت. والشكلي بكسر الشين المعجمة وسكون الكاف هو أبو الفضل العباس يوسف بن إسماعيل البغدادي، روى عن السري وعمه محمد بن إسماعيل الشكلي، وعنه أبو بكر القطيعي وأبو حفص بن شاهين، منسوب إلى شكلة؛ اسم امرأة، والمعروف بها إبراهيم من شكلة، الأمير الذي امتدحه أبو تمام، وقد تقدم له ذكر في هذا الكتاب .

التالي السابق


الخدمات العلمية