إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس .

اعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب ، فإنه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى ، وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ، ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر .

ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام : أن يسأله ليستسقي لبني إسرائيل .

بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقي لهم في سبعين ألفا ، فأوحى الله : عز وجل : إليه كيف أستجيب لهم ، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم، سرائرهم خبيثة يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ ؛ فقل له يخرج حتى أستجيب له ، فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف فبينما موسى ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله ، بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى عليه السلام : بنور الله : عز وجل : فسلم عليه وقال : له ما اسمك ؟ فقال : اسمي برخ . قال : فأنت طلبتنا منذ حين اخرج ، فاستسق لنا .

فخرج فقال في كلامه : ما هذا من فعالك ، ولا هذا من حلمك ، وما الذي بدا لك ؟ ؟ أنقصت عليك عيونك ؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك ؟ أم نفد ما عندك ؟ أم اشتد غضبك على المذنبين ؟ ألست كنت غفارا قبل خلق الخطائين ؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ قال فما برح حتى أخضلت بنو إسرائيل بالقطر ، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب ، قال : فرجع برخ ، فاستقبله موسى : عليه السلام : فقال كيف رأيت حين خاصمت ربي كيف أنصفني فهم موسى : عليه السلام : به فأوحى الله تعالى إليه إن برخا يضحكني كل يوم ثلاث مرات .

وعن الحسن قال احترقت أخصاص بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق وأبو موسى يومئذ أمير البصرة فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص ، قال : فأتي بشيخ فقال يا شيخ ، ما بال خصك لم يحترق قال ؟! : إني أقسمت على ربي : عز وجل : أن لا يحرقه . فقال أبو موسى رضي الله عنه إني سمعت رسول الله : صلى الله عليه وسلم : يقول : يكون في أمتي قوم شعثة رءوسهم ، دنسة ثيابهم ، لو أقسموا على الله لأبرهم قال : ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار ، فقال له أمير البصرة : انظر ، لا تحترق بالنار . فقال : إني أقسمت على ربي : عز وجل : أن لا يحرقني بالنار . قال : فاعزم على النار أن تطفأ . قال : فعزم عليها فطفئت .

وكان أبو حفص يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي مدهوش فقال له أبو حفص : ما أصابك فقال : ضل حماري ، ولا أملك غيره . قال : فوقف أبو حفص ، وقال : وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره . قال : فظهر حماره في الوقت ، ومر أبو حفص رحمه الله .

فهذا وأمثاله يجري لذوي الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم .

قال الجنيد رحمه الله: أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هي كفر عند العامة .

وقال مرة : لو سمعها العموم لكفروهم ، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك .

وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وإليه أشار القائل :


قوم تخالجهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه     تاهوا برؤيته عما سواه له
يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا

ولا تستبعدن رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما ، ففي القرآن تنبيهات على هذه المعاني لو فطنت وفهمت ؛ فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولي البصائر والأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار ، فإنما هي عند ذوي الاعتبار من الأسماء .

فأول القصص قصة آدم عليه السلام : وإبليس ، أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم ؟! تباينا في الاجتباء والعصمة .

أما إبليس فأبلس عن رحمته ، وقيل : إنه من المبعدين .

وأما ، آدم : عليه السلام : فقيل فيه : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .

وقد عاتب الله نبيه : صلى الله عليه وسلم : في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد ، وهما في العبودية سيان ، ولكن في الحال مختلفان ، فقال : وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ، وقال في الآخرة : أما من استغنى فأنت له تصدى وكذلك أمره بالقعود مع طائفة فقال عز وجل : وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم وأمره بالإعراض عن غيرهم فقال : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى قال : فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي .

فكذا ، الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض ، فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقوله في التعليل والاعتذار لما قيل له : اذهب إلى فرعون فقال : ولهم علي ذنب وقوله : إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى . وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ، ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة ، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ونودي عليه إلى يوم القيامة : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال : الحسن العراء هو القيامة ، ونهى نبينا : صلى الله عليه وسلم : أن يقتدى به .

وقيل له : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم .

وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات ، وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد ، وقد قال تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى : عليه السلام : من المفضلين ، ولإدلاله سلم على نفسه فقال : والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس .

وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه .

وانظر كيف احتمل لإخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء : قد عددت من أول قوله تعالى : إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم ، فيه نيفا وأربعين خطيئة ، بعضها أكبر من بعض ، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع ، فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محي : من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك .

وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح ، فعفا عنه .

فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام : يا رأس العابدين ، ويا ابن محجة الزاهدين ، إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف ؟! وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتي ، وجلالي ، لئن أخذته عصفة من عصفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه ، ونكالا لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيبا من رمل ، ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال : إلهي وسيدي ، أنت أنت وأنا أنا فكيف أتوب إن لم تتب علي ؟ وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودن فأوحى الله تعالى إليه صدقت يا آصف ، أنت أنت ، وأنا أنا ، أستقبل التوبة وقد ، تبت عليك ، وأنا التواب الرحيم وهذا كلام مدل به عليه ، وهارب منه إليه ، وناظر به إليه .

وفي ، الخبر أن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه بعد أن كان أشفى على الهلكة كم من ذنب واجهتني به غفرته لك قد أهلكت في دونه أمة من الأمم .

فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به المشيئة الأزلية .

وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا من قبل ، فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور ، وتعرف من الله تعالى إلى خلقه ؛ فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول : قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله فيقول الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة ، فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة ؛ وهي : الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه ، أو معرفة صفاته وأسمائه ، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده .


[ ص: 641 ] (بيان معنى الانبساط والإدلال الذي تثمره غلبة الأنس)

(اعلم) أرشدك الله (أن الأنس) يثمر السكينة والطمأنينة والانبساط والإدلال؛ وذلك لأن لذة الأنس تطير ألباب العارفين، وتوجب لهم الطغيان؛ لأن الإنسان يطغى عند الغنى، فيمدهم الله بعنايته وتوفيقه، وينزل عليهم سكينة فيثبتهم بها، ويوقفهم على حد الاعتدال في آداب الحضرة، قال الله تعالى: ما زاغ البصر وما طغى وهذه سعادة لا يعطاها كل أحد؛ لأن الأدب يزيد في القرب من المحبوب، قال الله تعالى: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا ولفظ السكينة ورد في كتاب الله تعالى على أحوال مختلفة لاشتراكها في نفس السكون، والطمأنينة فوق السكينة؛ لأن السكينة صولة تعدل طغيان القلب وتثبته، والطمأنينة وجود بعد اعتدال بفرح واستبشار لمعرفة القلب بالمزيد، والطمأنينة مستصحبة مع الأنس؛ لأنها مقصودة في نفسها، والسكينة وسيلة تحثه على الأدب والاعتدال، وأما الانبساط والإدلال فإن الأنس (إذا دام وغلبه واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق) لقصور نظره على طيب حاله (ولم ينغصه خوف التغير والحجاب، فإنه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى، وقد يكون منكر الصورة) لا يليق بحال التعظيم والإجلال الموجبين للهيبة (لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة، ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس) ، وقد يليق بالمستأنس المنبسط ما لا يليق بالنائب المتضائل، وذلك مثل قول عائشة رضي الله عنها لما سمعت قوله تعالى: ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء قالت: إن ربك ليسارع في رضاك أو هواك (ومن لم يقم في ذلك المقام وتشبه بهم في الفعل هلك به وأشرف على الكفر) عياذا بالله منه (ومثاله مناجاة برخ الأسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى -عليه السلام- أن يسأله يستسقي لبني إسرائيل بعد أن قحطوا سبع سنين) ومنع عنهم المطر (وخرج موسى) -عليه السلام- (يستسقي لهم في سبعين ألفا، فأوحى الله -عز وجل- إليه كيف أستجيب لهم، وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم خبيثة يدعوني على غير يقين، ويأمنون مكري، ارجع إلى عبد من عبادي يقال له برخ؛ فقل له يخرج) فيدعو (حتى أستجيب له، فسأل عنه موسى عليه السلام) بني إسرائيل (فلم يعرف) ؛ لأنه كان مجهولا عندهم، لا يؤبه به ولا يشار إليه (فبينا موسى) -عليه السلام- (ذات يوم يمشي في طريق إذا بعبد أسود قد استقبله، بين عينيه تراب من أثر السجود، في شملة قد عقدها على عنقه، فعرفه موسى -عليه السلام- بنور الله -عز وجل- فسلم عليه وقال: له ما اسمك؟ فقال: اسمي برخ. قال: فأنت طلبتنا) ، أي: مطلوبنا (منذ حين، اخرج) إلى الصحراء (فاستسق لنا) ربك (فخرج) مطيعا له ورفع يديه ودعا (فقال في) جملة (كلامه: ما هذا من فعالك، ولا هذا من حلمك، وما الذي بدا لك؟ أنقصت عليك عيونك؟ أم عاندت الرياح عن طاعتك؟ أم نفد ما عندك؟ أم اشتد غضبك على المذنبين؟ ألست كنت غفارا قبل خلق الخطائين؟ خلقت الرحمة وأمرت بالعطف، أم ترينا أنك ممتنع؟ أم تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة؟ قال) الراوي (فما برح) مكانه (حتى) اجتمع السحاب في أكناف السماء و (أخضلت بنو إسرائيل بالقطر، وأنبت الله تعالى العشب في نصف يوم حتى بلغ الركب، قال: فرجع برخ، فاستقبله موسى -عليه السلام- فقال) برخ: (كيف رأيت حين خاصمت ربي كيف أنصفني موسى -عليه السلام- به) ليؤدبه (فأوحى الله إليه) لا تفعل (إن برخا يضحكني كل يوم ثلاث مرات) يشير إلى أنه من ضنائن أوليائه .

(و) روي (عن الحسن) البصري رحمه الله تعالى [ ص: 642 ] (قال احترقت أخصاص) جمع خص بالضم، اسم لما يبنى من القصب (بالبصرة فبقي في وسطها خص لم يحترق وأبو موسى) الأشعري -رضي الله عنه- (يومئذ أمير البصرة) كان ولاه عمر -رضي الله عنه- بعد عزل المغيرة بن شعبة، وأقره عثمان على عمله قليلا، ثم عزله بعبد الله بن عامر، وسكن أبو موسى الكوفة، وولاه عثمان إياها بعد عزل سعيد بن العاص، (فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص، قال: فأتي بشيخ فقال) له: (يا شيخ، ما بال خصك لم يحترق؟! فقال: إني أقسمت على ربي -عز وجل- أن لا يحرقه. فقال أبو موسى) -رضي الله عنه- صدق الشيخ (إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: يكون في أمتي قوم شعثة رؤوسهم، دنسة ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء، وفيه انقطاع اهـ. قلت: ورواه أيضا الديلمي، ولفظه: يكون في أمتي رجال طلس رؤوسهم، دنس ثيابهم، لو أقسموا على الله لأبرهم. وأشار بالانقطاع بين الحسن وأبي موسى لما ذكرنا أنه حين ولي أميرا بالبصرة لم يكن الحسن قد ولد، والمشهور في الباب حديث أنس: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره. ورواه الجماعة إلا الترمذي (قال: ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة) عباد بن عباد (الخواص) ترجمه أبو عبيدة في الحلية، وهكذا سماه وكناه، وفي رجال أبي داود رجل هكذا بعينه اسمه عباد بن عباد، وكنيته أبو عتبة فقيل: هو هو، وقد روى صاحب الحلية في الترجمة من طريق رداد بن الجراح، حدثنا عباد بن عباد، أو عتبة عن الأوزاعي ... فساق حديثا، وروى من طريق أبي مسهر قال: حدثني أبو عباد الخواص، حدثني أبو بكر بن أبي مريم ... فساق حديثا. وروى من طريق حماد بن واقد، قال: سمعت أبا عبيدة يقول: فساق قولا له. ومن طريق أبي مسلم الصوري قال: كتب عباد بن عباد الخواص إلى إخوانه ... فساق كلاما له. وكل هذا الاختلاف في ترجمة واحدة، فلعله كان يكنى بكل منها .

وقرأت في ديوان الضعفاء للذهبي بخطه: عباد بن عباد أبو عتبة الأرسوفي الخواص، وثقه ابن معين، وقال ابن حبان: كان يأتي بالمناكير فاستحق الترك. وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: عباد بن عباد الرملي الأرسوفي أبو عتبة الخواص، صدوق يتهم، أفحش ابن حنبل، فقال: يستحق الترك، والذي يظهر أن هذا غير الذي ذكر في القصة؛ فإنه بصري، وهذا رملي (فجعل يتخطى النار، فقال له أمير البصرة: انظر، لا تحترق بالنار. فقال: إني أقسمت على ربي -عز وجل- أن لا يحرقني بالنار. قال: فاعزم على النار أن تطفأ. قال: فعزم عليها فطفئت) في الحال (وكان أبو حفص) عمر بن سلم الحداد النيسابوري شيخ الجنيد تقدم ذكره (يمشي ذات يوم فاستقبله رستاقي) ، أي: سوادي (مدهوش) ، أي: ذاهل العقل (فقال له أبو حفص: ما أصابك؟ قال: ضل حماري، ولا أملك غيره. قال: فوقف أبو حفص، وقال: وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره. قال: فظهر حماره في الوقت، ومر أبو حفص رحمه الله تعالى) في شأنه (فهذا وأمثاله مما يجري لذوي الأنس) من الانبساط والإدلال (وليس لغيرهم أن يتشبه بهم، قال الجنيد) -قدس سره- (أهل الأنس يقولون في كلفهم ومناجاتهم وخلواتهم أشياء هي كفر عند العامة، وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم، وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك، وذلك يحتمل منهم ويليق بهم) .

قال صاحب القوت: فلو رأيت أيها المستمع ما يكون بينه وبينهم في سرهم وما يجالسهم به ويحادثهم في هذه المواطن لكنت تعذرهم في كل قول وفعل، فهؤلاء محكوم عليهم في أمورهم، قد حيل بينهم وبين كثير من العلم المعقول والرسم المنقول أن ما أوجدهم مأخوذ بالعلم المجهول عند ذوي العقول، فمراده ساقط وعزمه مفسوخ، ومحبته في الأمور منقوصة، والخليقة منه في حيرة (وإليه أشار القائل:


قوم تخالجهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه     تاهوا برؤيته عما سواه له
يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا

ولا تستبعدن رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما، ففي القرآن تنبيهات على هذه المعاني [ ص: 643 ] لو فطنت وفهمت؛ فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولي الأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار، فإنما هي عند ذوي الاغترار من الأسمار) ، أي: الحكايات التي يسمر بها في المجالس (فأول القصص قصة آدم -عليه السلام- وإبليس، أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة) للأوامر الإلهية؟! (ثم تباينا في الاجتباء والعصمة؛ أما إبليس فأبلس عن رحمته، وقيل: إنه من المبعدين) ولذلك سمي إبليسا وشيطانا من شطن إذا بعد، (وأما آدم) -عليه السلام- (فقيل فيه: وعصى آدم ربه فغوى ) ، أي: ضل عن رشده ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) فكم بين جناية تسببت في الطرد من الحضرة الإلهية، وجناية تسببت إلى التقرب منها، (وقد عاتب الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الإعراض عن عبد والإقبال على عبد، وهما في العبودية سيان، ولكن في الحال مختلفان، فقال: وأما من جاءك يسعى ) ، أي: يسرع طالبا للخير، ( وهو يخشى ) الله، أو إذاية الكفار في إتيانك، أو كبوة الطريق؛ لأنه أعمى لا قائد له ( فأنت عنه تلهى ) ، أي: تتشاغل، (وقال في الآخرة: أما من استغنى فأنت له تصدى ) ، أي: تتعرض بالإقبال عليه، وفي ذكر التلهي والتصدي إشعار بأن العتاب على اهتمام قلبه بالغني وتلهيه عن الفقير، ومثله لا ينبغي له، والمراد بالأول عبد الله بن أم مكتوم، والثاني أمية بن خلف.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن زيد: لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتم شيئا من الوحي كتم هذا عن نفسه. (وكذلك أمره بالقعود مع طائفة فقال: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم ) كتب ربكم على نفسه الرحمة (وأمره بالإعراض عن غيرهم فقال: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم ... حتى قال: فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) وهم أهل الصفة، وقد تقدم الكلام عليه (فكذا الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض، فمن انبساط الأنس قول موسى -عليه السلام- إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء وقوله في التعلل والاعتذار لما قيل له: اذهب إلى فرعون فقال: ولهم علي ذنب وقوله: إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ) ولا ينطلق لساني (وقوله: إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى ... وهذا) وأمثاله (من غير موسى عليه السلام) معدود (من سوء الأدب) في الحضرة الإلهية (لأن الذي أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل، ولم يحتمل ليونس -عليه السلام- ما) هو (دون هذا) بكثير، وهو ذهابه مغاضبا لقومه قبل أن يؤمر، وقيل بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم، ولم يعرف الحال، فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك (لما أن أقيم مقام القبض والهيبة، فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث) : بطن الحوت والبحر والليل، وكان مدة مكثه في بطن الحوت أربع ساعات وقيل: ثلاثة أيام (ونودي عليه إلى يوم القيامة: لولا أن تداركه نعمة من ربه ) يعني التوفيق للتوبة وقبولها ( لنبذ ) ، أي: طرح ( بالعراء ) ، أي: بالأرض الخالية عن الأشجار ( وهو مذموم ) ، أي: مطرود من الرحمة والكرامة .

(قال الحسن) البصري -رحمه الله تعالى- (العراء هو القيامة، ونهى نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدى به، وقيل له: فاصبر لحكم ربك ) ، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ( ولا تكن كصاحب الحوت ) يونس ( إذ نادى ) في بطن الحوت ( وهو مكظوم ) مملوء غيظا من الضجرة فتبتلى ببلائه، وقال قتادة: أي لا تعجل كما عجل، ولا تغاضب كما غاضب، رواه أحمد في الزهد، وقال وهب: كان في خلق يونس ضيق، فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ منها ما تفسخ الربع فقذفها من يديه وهرب، رواه الحاكم، وقال ابن عباس: وهو مكظوم، أي مغموم، رواه ابن أبي حاتم (وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات، [ ص: 644 ] وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد، وقد قال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقال) في تفاوت مراتبهم ( منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى -عليه السلام- من المفضلين، ولإدلاله) وانبساطه (سلم على نفسه فقال: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) ، كما أخبر الله تعالى عنه (وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس، وأما يحيى بن زكريا) عليهما السلام (فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه ) يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (وانظر كيف احتمل لإخوة يوسف) عليهم السلام (ما فعلوه بيوسف) -عليه السلام- وهم يهوذا وروبيل وشمعون ونكشل ووابي وعباد وأملون وأساحر وإستروجادر ولاوي (وقد قال بعض العلماء: قد عددت من أول قوله تعالى: إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين) آية (من إخباره تعالى عن زهدهم، فيه نيفا وأربعين خطيئة، بعضها أكبر من بعض، وقد يجتمع في الكلمة الواحدة ثلاث) منها (والأربع، فغفر لهم وعفا عنهم) وقبل شفاعة أبيهم واستغفاره فيهم، ومنهم من شرفه بالنبوة (ولم تحتمل لعزير) بن شاروخا (في مسألة واحدة سأل عنها في القدر) وقصته في القرآن: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها الآية، وكان يحفظ التوراة على ظهر قلبه، فلما أحياه الله تعالى بعد مائة عام، وكان بختنصر قد أحرق نسخ التوراة كلها، فجدد لهم التوراة عن ظهر قلبه؛ ولذلك قالوا فيه: عزير ابن الله، وقد أخرج قصته ابن عساكر من طرق عن كعب، ووهب، والحسن، وابن عباس (حتى قيل: محيي من ديوان النبوة) بسبب ذلك (وكذلك بلعم بن باعوراء) في بني إسرائيل (من أكابر العلماء) وممن كان يعرف الاسم الظاهر (فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك) فغضب الله عليه، وكان ما كان، وقصته في القرآن، وقد تقدم ذكرها في كتاب ذم الدنيا (وكان آصف) بن برخيا بن شمويل ابن خالة سيدنا سليمان -عليه السلام- ووزيره ومعينه، قيل: هو المراد بقوله تعالى: قال الذي عنده علم من الكتاب قيل: كان يعرف الاسم الأعظم، لكنه كان (من المسرفين) على نفسه (وكانت معصيته في الجوارح، فعفا عنه، فقد روي أن الله تعالى أوحى إلى سليمان -عليه السلام- يا رأس العابدين، ويا ابن محجة الزاهدين، إلى كم يعصيني ابن خالتك آصف؟! وأنا أحلم عنه مرة بعد مرة، فوعزتي وجلالي، لئن أخذته عطفة من عطفاتي عليه لأتركنه مثلة لمن معه، ونكالا لمن بعده) ، أي: ليعتبر به المعتبرون (فلما دخل آصف على سليمان أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج) آصف (حتى علا كثيبا من رمل، ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال: إلهي وسيدي، أنت أنت) ، أي: في كمال عزك وربوبيتك (وأنا أنا) ، أي: في كمال ذلي وعبوديتي، (فكيف أتوب إن لم تتب علي؟ وكيف أستعصم إن لم تعصمني لأعودن) ، أي: إلى المعصية، (فأوحى الله تعالى إليه) بواسطة سيدنا سليمان -عليه السلام- (صدقت يا آصف، أنت أنت، وأنا أنا، أستقبل التوبة، فقد تبت عليك، وأنا التواب الرحيم) وبقي على رتبته التي كان عليها، وقد رويت عنه العلوم الغريبة من الفلكيات والطلاسم، وإليه ينتهي إسنادها (وهذا كلام مدل به عليه، وهارب منه إليه، وناظر به إليه، وتم الخبر أن الله تعالى أوحى إلى عبد تداركه) بتوفيقه وعصمته وحفظه (بعد أن كان أشفى) ، أي: أشرف (على الهلكة) وقال: (كم من ذنب واجهتني به غفرته لك) ما (قد أهلكت في دونه أمة من الأمم، فهذه سنة الله تعالى في عباده بالتفضيل والتقديم والتأخير على ما سبقت به [ ص: 645 ] المشيئة الأزلية، وهذه القصص وردت في القرآن لتعرف بها سنة الله في عباده الذين خلوا) ، أي: مضوا (من قبل، فما في القرآن شيء إلا وهو هدى ونور، وتعرف من الله إلى خلقه؛ فتارة يتعرف إليهم بالتقديس فيقول: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وتارة يتعرف لهم بصفات جلاله) وكلاهما يتعلق بذات الله تعالى من سلب نقص وإثبات كمال (فيقول) في الإثبات: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون ويقول: الله لا إله إلا هو الحي القيوم ويقول: هو الله الذي لا إله إلا هو (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر) ، وأما السلب فكقول الله تعالى: قل هو الله أحد إلى آخرها، وقوله: ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا وقوله تعالى: رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ، أي: مثيلا ونظيرا، فهذه هي المعرفة الخاصة (وتارة يتعرف إليهم في أفعاله المخوفة والمرجوة، فيتلو عليهم سنته في أعدائه وفي أنبيائه فيقول: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة؛ وهي: الإرشاد إلى معرفة ذات الله وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسنته مع عباده) ؛ ولذلك انقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال .

التالي السابق


الخدمات العلمية