إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
[ ص: 2 ] كتاب النية والإخلاص والصدق .

وهو الكتاب السابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم .

نحمد الله حمد الشاكرين ونؤمن به إيمان الموقنين ونقر بوحدانيته إقرار الصادقين ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين وخالق السماوات والأرضين ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين أن يعبدوه عبادة المخلصين ، فقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين فما لله إلا الدين الخالص المتين فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين والصلاة على نبيه محمد سيد المرسلين وعلى جميع النبيين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .

أما بعد ، فقد انكشف لأرباب القلوب ببصيرة الإيمان وأنوار القرآن أن لا وصول إلى السعادة إلا بالعلم والعبادة فالناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم .

فالعمل بغير نية عناء والنية بغير إخلاص رياء وهو للنفاق كفاء ومع العصيان سواء والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء وقد قال الله تعالى في كل عمل كان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية ؟ أو كيف يخلص من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص ؟ أو : كيف تطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه ؟ . فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولا لتحصل ؛ المعرفة ، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص .

ونحن نذكر معاني الصدق والإخلاص في ثلاثة أبواب .

الباب الأول : في حقيقة النية ومعناها .

الباب الثاني : في الإخلاص وحقائقه .

والباب الثالث : في الصدق وحقيقته .


[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، الله ناصر كل صابر، الحمد لله الذي أنس بذكره المخلصون، ولهج بمحبته الصادقون، وفرح بحسن بلائه الراضون، أحمده حمدا يشرق إشراق النجوم، وأستغفره مما تراكم على القلوب من الغموم، وأستهديه لما يرضيه من اكتساب المعارف والفهوم .

وأشهد أن لا إله إلا الله، محسن الأعمال بالنيات، ومزين الأحوال بأشعة التجليات، ومودع الخواطر من حكمه جواهر مضيئات، سبحانه من إله شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا، وأطلع لنا من أفقه المحيط يوحا، وأفاض علينا من لذيذ شربه غبوقا وصبوحا .

وأشهد أن سيدنا محمدا عبده الذي اصطفاه، ورسوله الذي اجتباه، وصفيه الذي اختاره وحباه، إمام المخلصين، وعصمة أهل اليقين، وتاج هامة المتقين، الذي هدى به السبيل الأقوم، وبين الطريق الأعدل الأحكم، وشد به عرى الدين، فاستوثق واستحكم، صلى عليه وعلى آله بحور المعارف، وأصحابه كنوز اللطائف، صلاة تستنزل غيث الرحمة من سحابه، وتحل صاحبها من الرضوان أوسع رحابه، وسلم تسليما، وزاده شرفا وتعظيما .

وبعد، فهذا شرح (كتاب النية والإخلاص والصدق)

وهو السابع والثلاثون من كتب الإحياء للإمام الهمام، غوث الأئمة الأعلام، قطب العلم والحال والمقام، الملقب بين الأنام بحجة الإسلام، أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أسكنه الله الفردوس الأعلى، وروى ثراه من الكوثر الأحلى، رفعت عن مخدرات عرائس أفكاره حجب الأستار، وأوضحت ما استكن في ضمائر فوائده من الأسرار، حتى ظهر للمريدين سبيله، وصفا للواردين سلسبيله، وراق للشاربين زلاله، وامتدت للائذين ظلاله، فدونك شرحا مفيدا، يسدي الخير إليك، ويبين كل ما أشكل عليك، يفتح لك منه باب الفهم، ويخلصك من ورطة الوهم، ويرشدك إلى الصواب، ويحصل لك جزيل [ ص: 3 ] الثواب، والله تعالى أسأل العون والإمداد، وإياه أرجو التوفيق والسداد؛ إنه الكافي الكفيل، وهو حسبي ونعم الوكيل .

قال المصنف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) إذ كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكره فهو أبتر، كما ورد بذلك الخبر .

(نحمد الله حمد الشاكرين) أشار بالجملة الفعلية إلى تجدد الحمد منه للمنعم في كل آن بتجدد أنواع نعمه المتواترة في كل شأن، والجملة عبارة عن مركب من كلمتين أسندت إحداهما إلى الأخرى، سواء أفاد أو لا .

وفيما نحن فيه أفادت صدور الحمد من الحامدين للمحمود المطلق على كل حال، والكلام في حقيقة الحمد والشكر وما بينهما من النسب والإضافات قد تقدم بيانها في صدر شرح كتاب العلم فلا نعيده .

(ونؤمن به إيمان الموقنين) أي إيمانا موصوفا باليقين، كإيمان من اتصف به على التعيين (ونقر بوحدانيته) مصدر الواحد الذي لا يصح عليه التجزؤ والتكثر (إقرار الصادقين) الذين طابق قولهم الضمير والمخبر عنه معا، (ونشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين) أي: مالكهم وحافظهم ومربيهم إلى أن ينتهوا إلى مرتبة الكمال اللائق بهم، والعالم كل ما سواه من الجواهر، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده، (وخالق السموات والأرضين) أي: وما بينهما، والاقتصار في الذكر عليها اتباعا لما في القرآن .

الحمد لله الذي خلق السموات والأرض؛ لأنهما أعظم المحسوسات في المشاهد، (ومكلف الجن والإنس والملائكة المقربين) في بساط حضرته قربا يليق بهم، كما قال تعالى: يشهده المقربون وذلك بحسب مقاماتهم ودرجاتهم، كما قال تعالى حكاية عنهم، وما منا إلا له مقام معلوم (أن يعبدوه عبادة المخلصين، فقال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) لا يشركون به ولا يشاركون غيره في عبادته، والضمير في قوله: "وما أمروا" راجع إلى الكفار من أهل الكتاب والمشركين عبدة الأصنام، أي: وما أمروا في كتبهم بما فيها إلا الإخلاص في العبادة، (فما لله إلا الدين الخالص المتين) يشير إلى قوله تعالى ألا لله الدين الخالص وإلى قوله تعالى وذلك دين القيمة أي: المستقيمة المتينة .

(فإنه أغنى الأغنياء عن شركة المشاركين) كما جاء ذلك في الحديث القدسي قال: روى ابن جرير والبزار من حديث أبي هريرة، قال الله عز وجل: "من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله، وأنا أغنى الشركاء عن الشرك".

(والصلاة) مع السلام (على نبيه) سيدنا (محمد سيد المرسلين) أي: رئيسهم ومقدمهم (وعلى جميع) إخوانه من (النبيين) والمرسلين (وعلى آله الطيبين) في أنفسهم (الطاهرين) عن الرذائل والأدناس .

(أما بعد، فقد انكشف لأرباب القلوب) أي: أهل الباطن (ببصيرة الإيمان) بما قر فيها من نوره (وأنوار القرآن) أي: بما تجلى عليها منها (أن لا وصول إلى السعادة) الأبدية التي لا شقاء بعدها (إلا بالعلم) الذي هو الأصل الأعظم في كل مقام من مقامات الإيمان (والعبادة) التي يثمرها الحال المنتج عن العلم، (فالناس كلهم هلكى) أي: هالكون في بحر الضلالة والجهل (إلا العالمون) فبعلمهم يخلصون أنفسهم من هلاك الجهل، (والعالمون كلهم هلكى) أي هالكون في بحر الحيرة والدهش (إلا العاملون) بمقتضى علومهم، (والعاملون كلهم هلكى) في بحر العجب والرياء (إلا المخلصون) لله في أعمالهم، (والمخلصون) مع ذلك (على خطر عظيم) لا يدرون كيف يختم لهم، خائفون من خفي مكر الله تعالى، وهذا القول نسب إلى سهل التستري رحمه الله تعالى .

قال الخطيب في كتاب اقتضاء العلم العمل: أخبرنا الحسن بن محمد الخلال، حدثنا محمد بن عبد الله الشيباني قال: سمعت عبد الكريم بن كامل يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه .

قال: وأخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن فضالة الحافظ، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، حدثنا بكر بن أحمد بن سعدويه قال: قال سهل بن عبد الله رحمه الله: الدنيا جهل وموت إلا العلم، والعلم كله حجة إلا العمل به، والعمل كله هباء إلا الإخلاص، والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به .

(فالعمل بغير نية) تصاحبه (عناء) أي: تعب (والنية بغير إخلاص رياء وهو للنفاق كفاء) أي: مكافئ له وقرين (ومع العصيان سواء) أي: في مرتبة واحدة (والإخلاص من غير صدق وتحقيق) بأن يطابق القول الضمير والمخبر عنه معا [ ص: 4 ] (هباء) وهو ما يرى في ضوء الشمس من الذرات .

(وقد قال الله تعالى في) شأن (كل عمل) صادر من العامل، (وكان بإرادة غير الله مشوبا مغمورا) أي: مخلوطا ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) قال البيضاوي : أي: وعمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقري الضيف، وصلة الرحم، وإغاثة الملهوف، فأحبطناه؛ لفقد ما هو شرط اعتباره وهو تشبيه حالهم وأعمالهم بحال قوم استعصوا سلطانهم، فقدم إلى أسبابهم فمزقها وأبطلها، ولم يبق لها أثرا .

والهباء: غبار يرى في شعاع الشمس، يطلع من الكوة، من الهبوة، ومنثورا صفته، شبه به عملهم المحيط في حقارته وعدم نفعه، ثم بالمنثور منه في انتشاره بحيث لا يمكنه نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم التي كانوا يتوجهون به نحوها، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله: كونوا قردة خاسئين (وليت شعري كيف يصحح نيته من لا يعرف حقيقة النية؟ أو كيف يخلص) أي: يصير مخلصا (من صحح النية إذا لم يعرف حقيقة الإخلاص؟ أو: كيف يطالب المخلص نفسه بالصدق إذا لم يتحقق معناه؟ .

فالوظيفة الأولى على كل عبد أراد طاعة الله تعالى أن يتعلم النية أولا؛ لتحصيل المعرفة، ثم يصححها بالعمل بعد فهم حقيقة الصدق والإخلاص اللذين هما وسيلتا العبد إلى النجاة والخلاص .

ونحن نذكر معاني النية والإخلاص في ثلاثة أبواب .

الباب الأول: في) بيان (حقيقة النية ومعناها) .

(الباب الثاني: في) بيان (الإخلاص وحقائقه) .

(الباب الثالث: في) بيان (الصدق وحقيقته) .

التالي السابق


الخدمات العلمية