إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ونيات الناس في الطاعات أقسام : إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار .

ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء ، وهو الرغبة في الجنة وهذا وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه فهو من جملة النيات الصحيحة ؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة ، وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا ، وأغلب البواعث باعث الفرج والبطن وموضع قضاء وطرهما الجنة فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه كالأجير السوء ودرجته درجة البله .

وإنه لينالها بعمله ؛ إذ أكثر أهل الجنة البله وأما عبادة ذوي الألباب فإنها لا تجاوز ذكر الله تعالى ، والفكر فيه لجماله لماله وجلاله وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها بل هم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه فقط وثواب الناس بقدر نياتهم فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم ، ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى الحور العين ممن ، يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين بل أشد فإن التفاوت بين جمال حضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيرا من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية لقضاء الوطر من مخالطة الحسان وإعراضهم عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء لصاحبتها وإلفها لها وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء فعمى أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء بأنها ، لا تشعر به أصلا ، ولا تلتفت إليه ولو كان لها عقل وذكرن لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن ولا يزالون مختلفين ، كل حزب بما لديهم فرحون ، ولذلك خلقهم .

حكي أن أحمد بن خضرويه رأى ربه عز وجل في المنام فقال له كل الناس يطلبون مني الجنة إلا أبا يزيد فإنه يطلبني ورأى أبو يزيد ربه في المنام فقال : يا رب كيف الطريق إليك فقال : اترك نفسك وتعال إلي .

. ورؤي الشبلي بعد موته في المنام فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : لم يطالبني على الدعاوي بالبرهان إلا على قول واحد . قلت يوما أي خسارة أعظم من خسران الجنة فقال أي خسارة أعظم من خسران لقائي .

والغرض أن هذه النيات متفاوتة الدرجات ومن غلب على قلبه واحدة منها ربما لا يتيسر له العدول إلى غيرها .

ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالا وأفعالا لا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء فإنا نقول : من حضرت له نية في مباح ، ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى وانتقلت الفضيلة إليه وصارت الفضيلة في حقه نقيصة لأن الأعمال بالنيات .

وذلك مثل العفو ؛ فإنه أفضل من الانتصار في الظلم وربما تحضره نية في الانتصار دون العفو ، فيكون ذلك أفضل .

ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويتقوى على العبادات في المستقبل وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة ، فالأكل والشرب والنوم هو الأفضل له ، بل لو مل العبادة لمواظبته عليها ، وسكن نشاطه ، وضعفت رغبته ، وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه فاللهو أفضل له من الصلاة .

قال أبو الدرداء إني لأستجم نفسي بشيء من اللهو فيكون ذلك عونا لي على الحق وقال علي كرم الله وجهه : روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت .

وهذه دقائق لا يدركها إلا سماسرة العلماء دون الحشوية منهم بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته ، ويستبعده القاصر في الطب وإنما يبتغي به أن يعيد أولا قوته ليحتمل المعالجة بالضد والحاذق في لعب الشطرنج مثلا قد ينزل عن الرخ والفرس مجانا ليتوصل بذلك إلى الغلبة والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه .

وكذلك الخبير بالقتال قد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره .

فكذلك سلوك طريق الله تعالى كله قتال مع الشيطان ومعالجة للقلب والبصير الموفق يقف فيها على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكارا على ما يراه من شيخه ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته وما لا يفهمه من أحوالهما يسلمه لهما إلى أن ينكشف له أسرار ذلك بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما ومن الله حسن التوفيق .


(ونيات الناس في الطاعات أقسام: إذ منهم من يكون عمله إجابة لباعث الخوف فإنه يتقي النار) لا غير، (ومنهم من يعمل إجابة لباعث الرجاء، وهو الرغبة في الجنة) لا غير، (وهذا وإن كان نازلا بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله لا لأمر سواه فهو من جملة النيات الصحيحة؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان من جنس المألوفات في الدنيا، وأغلب البواعث) على الإنسان (باعث الفرج والبطن) للنكاح والأكل (وموضع قضاء وطرهما في الجنة) لأنها دار الجزاء، (فالعامل لأجل الجنة عامل لبطنه وفرجه) فهو (كالأجير السوء) الذي إن أعطي عمل وإن لم يعط لم يعمل، (ودرجته درجة البله، وإنه لينالها بعمله؛ إذ) قد ورد في الخبر: (أكثر أهل الجنة البله) كما تقدم .

(وأما عبادة ذوي الألباب) يشير إلى جملة ذكرت في آخر الخبر وهي قوله: "وعليون لذوي الألباب" وتقدم أنها مدرجة من كلام بعض رواته، وليست من أصل الحديث، فإنه (لا يجاوز ذكر الله تعالى، والفكر فيه حبا لجماله وجلاله) وإعظاما لربوبيته (وسائر الأعمال تكون مؤكدات وروادف) أي: توابع، (وهؤلاء أرفع درجة من الالتفات إلى المنكوح والمطعوم في الجنة فإنهم لم يقصدوها) ولم يعيروا طرفهم إليها (بل هم الذين) قال الله تعالى في حقهم: ( يدعون ربهم بالغداة والعشي ) في طرفي النهار ( يريدون وجهه ) أي: يقصدون وجهه (فقط) لا غير، وليس لهم التفات إلا إليه (وثواب الناس بقدر نياتهم) فمن كانت نيته أشرف أثابه الله ما يناسب حسن معرفته وقصده، (فلا جرم يتنعمون بالنظر إلى وجهه الكريم، ويسخرون ممن يلتفت إلى وجه الحور العين، كمن يتنعم بالنظر إلى وجه الصور المصنوعة من الطين بل أشد) وأعظم (فإن التفاوت بين جمال الحضرة الربوبية وجمال الحور العين أشد وأعظم كثيرا من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين) إذ لا مناسبة بين المقامين .

(بل استعظام النفوس البهيمية الشهوانية) التي جبلت على شهواتها كالبهائم (لقضاء الوطر من مخالطة الحسان) بالضم والتقبيل والوقاع (وإعراضها عن جمال وجه الله الكريم يضاهي استعظام الخنفساء) وهي دويبة منتنة تعبث بالأقذار، وأشد حرصها برجليها (لصاحبتها وإلفها لها) وأنسا بها (وإعراضها عن النظر إلى جمال وجوه النساء) الحسان .

(فعمى أكثر القلوب عن إبصار جمال الله وجلاله يضاهي عمى الخنفساء عن إدراك جمال النساء، فإنه لا تشعر به أصلا، ولا تلتفت إليه) أبدا [ ص: 33 ] والجنسية علة الضم، (ولو كان لها عقل وذكرت لها لاستحسنت عقل من يلتفت إليهن) وقد صدق الله تعالى في قوله: ( ولا يزالون مختلفين ، كل حزب بما لديهم فرحون ، ولذلك خلقهم ) وتمت كلمة ربك .

وقال صاحب القوت: وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله؛ تقربا إليه؛ لأجل الله تعالى، فهذا أعلى النيات، وهو غاية الإخلاص، ومن أراد بأعماله ما عند الله تعالى من ثواب الآخرة من حظوظ نفسه ومعاني شهواته ولذته من النعيم في الجنان واتخاذ الحور الحسان مما وصفه الله تعالى وندب إليه، لم يقدح ذلك في إخلاصه، ولم يغير صحة نيته من قبل أن الله تعالى مدحه، ورغب فيه، ووصفه، كان ذلك مزيد مثله، إلا أن هذا نقص في مقام المحبين عندهم، وعيب كعيب من عمل لعاجل حظه من دنياه، وهو شرك في إخلاص الموحدين الذين اختصوا بالعبودية، فعتقوا من أسر الهوى بالحرية، فلم يسترقهم سوى الوحدانية لما شهدوا من خالص الربوبية، وخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة، إلا أن من رزق المقام منها دخل بحقيقة إخلاص المعاملة مزورة، فلا تنقية ولا تصفية ولا عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين، وهذا مقام المحبين .

وإنما أتعب المريدين بالتنقية والتصفية للمعاملة لما بقي من الشرك الخفي والشهوة الخفية، كما أتعب خدام الدنيا بالجمع لما استرقهم من الهوى، فأما الأحرار فهم من مذمة الخلق برآء، وهذا يذهب الإخلاص، ويفسد النية، ويدخل الانتقاص. انتهى .

(وحكي أن) أبا حامد (أحمد بن خضرويه) البلخي -رحمه الله تعالى- من كبار مشايخ خراسان صحب أبا تراب النخشبي، قدم نيسابور، وزار أبا حفص، وخرج إلى بسطام في زيارة أبي يزيد البسطامي، وكان كبيرا في الفتوة، وكان أبو يزيد يقول: أستاذنا أحمد مات سنة أربعين ومائتين عن خمس وتسعين سنة، ترجمه القشيري في الرسالة (رأى ربه في المنام فقال له) : يا أحمد (كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد) يعني البسطامي (فإنه يطلبني) نقله القشيري.

(ويحكى) أنه (رأى أبو يزيد) البسطامي رحمه الله تعالى (ربه في المنام فقال: يا رب كيف الطريق إليك) ؟ أي: دلني على طريق الوصول إليك، كما قال القائل مشيرا إلى هذا المقام:


يا من هواه أعزه وأذلني كيف الطريق إلى وصالك دلني

(فقال: اترك نفسك وتعال. ورؤي) أبو بكر (الشبلي) قدس سره (بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: لم يطالبني على الدعاوى بالبرهان إلا على قول واحد. قلت يوما) من الأيام: (أي خسارة أعظم من خسران الجنة) أي: لا أعظم من خسارة من غفل عنها بعد أن أمكنه تحصيلها (فقال) تعالى: (بل أي خسران أعظم من خسران لقائي) وذلك لأن لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه أعظم من نعيم الجنة .

(والغرض أن هذه النيات متفاوتة الدرجات) منها أعلى ومنها دون وبينهما أوساط، (ومن غلب على قلبه واحدة منها لم يتيسر له العدول إلى غيرها) لاستغراقه بها .

(ومعرفة هذه الحقائق تورث أعمالا وأفعالا يستنكرها الظاهريون من الفقهاء) أي الذين يتكلمون في ظاهر الفقه (فإنا نقول: من حضرت له نية في مباح، ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى) وأفضل حينئذ (و) قد (انتقلت الفضيلة إليه) أي: انتقل المعنى، فصار المباح هو الفضيلة، (وصارت الفضيلة في حقه نقيصة) أي: صارت الفضيلة هي النقيصة لعدم النية فيها (لأن الأعمال بالنيات، وذلك مثل العفو؛ فإنه أفضل من الانتصار في الظلم) أي: أن يكون رجل قد ظلم فله أن ينتصر وإن عفا كان أفضل .

(وربما تحضره نية في الانتصار) لعجزه عن كسب النية باستحضار فضيلة العفو وما ورد فيها من المثوبات والقربات (دون العفو، فيكون ذلك أفضل) لوجود النية فيها، (ومثل أن يكون له نية في الأكل والشرب والنوم ليريح نفسه ويقوى) بها (على العبادات في المستقبل) لوقت آخر، (وليس تنبعث نيته في الحالين للصوم والصلاة، فالأكل والنوم) صار (هو الأفضل له، بل لو مل العبادة لمواظبته عليها، وسكن نشاطه، وضعفت رغبته، وعلم أنه لو ترفه ساعة بلهو وحديث عاد نشاطه) وقوته إلى أوله، (فاللهو) حينئذ (أفضل من الصلاة .

قال أبو الدرداء) رضي الله عنه: (إني لأستجم نفسي) أي: أطلب جمامها، أي: راحتها (بشيء من اللهو [ ص: 34 ] ليكون ذلك عونا على الحق) نقله صاحب القوت، إلا أنه قال: ببعض اللهو .

(وقال علي -رضي الله عنه-: روحوا القلوب فإنها إذا أكرهت عميت) نقله الشريف في نهج البلاغة .

وروى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس : " روحوا القلوب ساعة وساعة " ويشهد له ما في صحيح مسلم : " يا حنظلة ساعة وساعة " .

(وهذه دقائق لا يعرفها إلا سماسرة العلماء) ونقادهم، وهم العلماء بباطن العلم وغوامض التعريف (دون الحشوية منهم) الذين يتعلقون بالقشور دون اللباب، (بل الحاذق بالطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته، ويستبعده القاصر في الطب) ويقول: كيف يداوى بما يضره؟! (وإنما يبتغي به أن يعيد أولا قوته) إن كان هناك ضعف مزاج (ليحتمل المعالجة بالضد) ولو عالجه بما يدفع حرارته ولا قوة عنده لاحتمال ذلك العلاج لأضره .

(والحاذق في لعب الشطرنج مثلا قد ينزل) في لعبه (عن الرخ والفرس مجانا) أي: بلا عوض مثلهما، والرخ والفرس من أقوى ما يقاتل به اللاعب لكثرة أعمالهما في الرقعة، وإنما يفعل ذلك مع كمال احتياجه إليهما (ليتوصل بذلك إلى الغلبة) على نديده .

(والضعيف البصيرة قد يضحك به ويتعجب منه) وسببه عدم نفوذ بصيرته، وقد يتفق أنه ينزل عن الفيل في مقابلة البيدق لأمر ما، ومن لا خبرة له ينكر ذلك .

(وكذلك الخبير بالقتال) أي: بأموره (وقد يفر بين يدي قرينه ويوليه دبره حيلة منه) لا جبنا (ليستجره إلى مضيق فيكر عليه فيقهره) وتارة إلى متسع ليملك غرضه في حربه فيغلب عليه؛ فإن الحرب خدعة كما ورد .

(فكذلك سلوك طريق الله تعالى) فإنك إذا نظرت بعين التأمل فإنه (كله قتال مع الشيطان) ومحاربة معه (ومعالجة للقلب) بالتصفية والتهذيب عن الرذائل (والبصير الموفق يقف فيها) في أثناء سلوكه (على لطائف من الحيل) ودقائق (يستبعدها الضعفاء) ويستنكرونها، (فلا ينبغي للمريد أن يضمر إنكارا على ما يراه من شيخه) يفعله مع نفسه، أو مع مريده في حركاته وسكناته، وإلا فلا يفلح أبدا، (ولا للمتعلم أن يعترض على أستاذه) ولو بقوله: لم كان كذا؟ وإلا فلا يفلح أبدا (بل ينبغي أن يقف عند حد بصيرته) ولا يخطر بباله شيء من الإنكار (وما لا يفهمه من أحوالهما) أي الشيخ والمعلم (يسلمه لهما إلى أن تنكشف له أسرار ذلك) ولو بعد حين (بأن يبلغ رتبتهما وينال درجتهما) كما أفصح عنه القشيري في آخر الرسالة في آداب المريدين (ومن الله حسن التوفيق) .

ولنذكر ما يتعلق بالنية من كتاب القوت مما لم يذكره المصنف؛ ليكون تكميلا للباب، ثم نتبعه بما في شرح التقريب للحافظ العراقي، وإدراك الأمنية في النية للشهاب القرافي، ومنتهى الآمال للحافظ السيوطي، رحمهم الله تعالى .

قال صاحب القوت: روينا في الخبر من طريق آل البيت: لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا قولا ولا عملا إلا بنية، فينبغي أن يكون للعبد في كل شيء نية حتى في مطعمه ومشربه وملبسه ونومه ونكاحه، فإن ذلك كله من أعماله التي يسأل عنها، فإن كانت لله وفي الله كانت في ميزان حسناته، وإن كانت في سبيل الهوى ولغير المولى كانت في ميزان سيئاته؛ إذ لكل عبد ما نوى، وإن كان ذلك غفلة وسهوا من غير نية ولا عقد طوية ولا عفة لم يكن له في ذلك شيء، ولم يجد عمله في الآخرة شيئا، وكان فيه لا له ولا عليه، وكان ذلك في الدنيا على مثال الأنعام التي تتصرف عن غير عقول ولا تكليف، ولكن بإلهام وتوفيق، وأخاف أن يدخل في وصف من قال الله تعالى فيه: أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا قيل: مجازفته قدما قدما من غير تمييز، وقيل: أي: غفلة وسهوا، وقيل: تفريطا وتضييعا، وقيل: مقدما إلى الهلاك .

فالنية الصالحة هي أول العمل، وأول العطاء من الله تعالى، وهي مكان الجزاء. وقال بعض السلف: رأيت الخير إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به خيرا وإن لم تنصب، رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية .

وقال داود الطائي : البر همته التقوى ولو تعلق جميع جوارحه بالدنيا الردية لردته نيته يوما إلى نية صالحة، فكذلك الجاهل بالله وأيامه همه الدنيا والهوى، ولو تعلقت جوارحه بكل أعمال الصالحات لكان مرجوعا إلى إرادة الدنيا وموافقة الهوى؛ لأن سرها كان همة النفس لعاجل عرض الدنيا .

وقال محمد بن الحسين : ينبغي للرجل أن تكون نيته بين يدي عمله .

وقال بعض العلماء: اطلب النية قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير .

وقال بعض التابعين: قلوب الأبرار تغلي بالبر، [ ص: 35 ] وقلوب الفجار تغلي بالفجور، والله مطلع على نياتهم، فيثيبهم على قدر ذلك، فانظر ما همك وما نيتك .

وقد روينا عن الله تعالى في بعض الكتب قال: ليس كل كلام الحكيم أتقبل، ولكني أنظر إلى همه وهواه، فمن كان همه وهواه لي جعلت همته ذكرا ونظره عبرا .

وسئل سفيان الثوري : هل يؤاخذ العبد بالنية؟ قال: نعم، إذا كان عزما أخذ بها، فأول سلطان العدو على القلب عن فساد النية، فإذا تغيرت من العبد طمع فيه فيتسلط عليه، وأول ارتداد العبد عن الاستقامة ضعف النية، فإذا ضعفت النية قويت النفس، فتمكن الهوى، وإذا قويت النية صح العزم، وضعفت صفات النفس .

وفي الأثر: من عمل عملا لا يريد به وجه الله لم يزل في مقت من الله حتى يفرغ، ولو لم يكن في تجديد النية الحسنة إلا أن صاحبها لا يزال عاملا من عمال الله بقلبه وهمه، وإن لم يساعده القدر على الأفعال بجوارحه، فيكون أبدا مأجورا .

ولو لم يكن في نية الشر إلا أن صاحبها في بطالة وخسارة، وإن لم يساعده المقدور على الأفعال السيئة بجوارحه فيكون أبدا خاسرا مأزورا، نعوذ بالله من ذلك .

ولقد كان السلف لشدة تفقدهم وحسن رعايتهم صادقين في ترك كثير من أعمال البر لضعف النية، ويعملون في أحكام الأصل. وقال ابن عيينة: إنما حرموا الوصول لتضييع الأصول، والنية أصل الأصول؛ لأنها فرض الفرائض .

(فصل)

وقد تلتبس النية بالأمنية فتخفى، والهمة بالوسوسة فتشتبه، والنية ما كان يراد به وجه الله، ويطلب به ما عنده، والأمنية ما تعلق بالخلق طلب منه عاجل الحظ من الملك الفاني .

وقد تلتبس الإرادة بالمحبة والحاجة بالشهوة، فالإرادة أن يريد وقوع الأمر وقد لا يحب كونه، أو يريد أيضا وجود ضده، والمحبة ما قهر العقل، وغلب الوجد، وحل في مجامع القلب، وكره وجود غيره، ولم يرد فقده، والحاجة ما اضطررت إليه، ولم يكن منه بد، ولا يستغنى عنه بغيره. والشهوة مزيد لذة، واستدعاء فضل فاقة، واجتلاب تقدم عادة، وقد يختلط الذكر بالقلب بالفكر في معاني القرب، فالذكر ما أظهر المنسي وكشف الغي، وأذكر الشيء، والفكر ما صور الأمر وأظهر الخبر .

وقد يلتبس الرجاء بالمحبة والهوى بالنية، فالرجاء ما طمعت فيه بسبب ما أو لسبب ما، والمحبة ما تطعمت ذوقه ووجدته بغير سبب تستخرجه .

وقد يلتبس ذل القلب بضعفه وقوته للطمع في الخلق بذل النفس لمشاهدة غيرة الحق سبحانه، وقد يتداخل ذل الطمع لدناءة الهمة والنفس بذل العقل للاعتراف بالحق وخضوع العلم له، وقد يلتبس ذل النفس لغلبة الهوى وقهره للعقل بذل القلب لسرعة الانقياد للعالم المحق، وقد تختلط عزة القلب بمقلبه بدوام النظر إليه وعزة العقل بعلمه الذي كثر عنده، وقد تلتبس عزة النفس بوصفها المتسلط بعزة الإيمان المعزز بغيبته اليقين .

فهذه فروق ظاهرة للعارفين، وخروق متسعة توهت العاقلين، وقد تلتبس العبادة بالعادة، مثل أن تكون للعبد نية في علم أو عمل أو صدقة أو نفقة الشهر أو السنة، ثم تعزب نيته فيبقى على عادته، يرث حال الذي قد عرف به، لا يحب أن يخرج من عرف الناس له، فيستعمل لاستقامة الحال على التكلف لتلك الأعمال، فتذهب النية وتبقى العادة، فيخرج به من إرادة الآخرة والسعي لها، ويدخل في إرادة الدنيا بالشهوات على جريان العادة بها .

وقد تلتبس طرقات الدنيا من طلب الرياسة لوجود الهوى بطرقات الآخرة في معنى العلوم والأعمال، فما طلب من علوم السلف وأريد به تأديب النفس، ويعلم به الزهد في الدنيا، فهذه طرقات الآخرة، وما كان على ضده فهو طرقات الدنيا؛ إذ هي ضدها .

وقد يلتبس إظهار الأعمال وكشف ما كتم من الأحوال لأجل التأديب به، والاتباع عليه، أو لإظهار قدرة الله عز وجل وآياته لمزيد السامع من المعرفة به، يفعل مثل ذلك للتزين والفخر، أو للمدعى به، وطلب الذكر .

وسئل أبو سليمان الداراني عن الرجل يخبر بالشيء عن نفسه؟ قال: إذا كان إماما يقتدى به فنعم .

وقال مرة، هو أو غيره: يختلف ذلك على قدر الإرادة به، إن أراد التأديب للنفس حسن ذلك; فهذا يلتبس بمداخلة النفس أو بفنائها بغيوبة شاهد اليقين للرب عز وجل .

(فصل)

ترك العمل عمل كثير يحتاج التارك للنهي أو المكروه فرضا أو ورعا إلى نية حسنة أن يتركه لله -عز وجل- طلبا منه، أو رغبة فيما عنده، لا لوجود الخلق ولا ليربي به حاله، أو يقيم عند العبيد جاهه؛ لأن [ ص: 36 ] ترك المعصية من الأعمال، فيحتاج إلى أحسن النيات؛ إذ عليها من الله تعالى أجزل المثوبات لبلوى النفس فيها، واضطرار النفس إليها .

قال بعضهم: من أحب أن يعرف ورعه غيره فليس من الله في شيء. وروينا في خبر: إن أعجميا مر بنفر قعود يتكلمون بكلام فيه استهزاء وهو يظن أنهم يدعون الله عز وجل، فقال مثل ما يقولون بحسن النية. قال: فغفر الله تعالى له بحسن نيته .

وقال الحسن : من علامة المسلم أن لا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا تقصر به نيته. يعني: لا تضعف ولا تقعد به عن المسارعة إلى القربات، هي أبدا في قوة وزيادة وإن قصرت أعماله فيها وعجزت قوى جوارحه .

قال: المؤمن تبلغ نيته وتضعف قوته، والمنافق تضعف نيته وتبلغ قوته .

وقال ابن عجلان : العمل لا يصلح إلا بثلاث: التقوى لله عز وجل، والنية الحسنة، والإصابة .

وقال أبو عبيدة بن عقبة : من قصده أن يكمل عمله فليحسن نيته، فإن الله تعالى ما جبر العبد إذا حسنت نيته حتى باللقمة .

وقال بعضهم: القصد إلى الله بالقلوب أبلغ من حركات الأعمال للصلاة والصيام ونحوه .

وقال الأنطاكي : إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح .

وروي عن علي -رضي الله عنه-: من كان ظاهره أرجح من باطنه خف ميزانه، ومن كان باطنه أرجح من ظاهره ثقل ميزانه يوم القيامة.

وروي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: وآتيناه أجره في الدنيا قال: نيته الصادقة اكتسب بها الأجر في الآخرة. اهـ سياق القوت .

(فصل)

قال السيوطي في منتهى الآمال: ورد في مطلق النية أحاديث كثيرة جدا تزيد على عدد التواتر، فروى البيهقي في السنن من حديث أنس : " لا عمل لمن لا نية له " .

وروى الشيخان من حديث ابن عباس، وأحمد من حديث رافع بن خديج، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، والطبراني من حديث غزية بن الحارث : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " .

وروى الستة من حديث سعد بن أبي وقاص : " إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت فيها " .

وروى ابن ماجه من حديث معاوية : " إنما الأعمال كالوعاء إذا طاب أسفله طاب أعلاه " .

وروى الأربعة من حديث عقبة بن عامر : " إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة " فذكره وفيه: " وصانعه يحتسب في صنعته الأجر " .

وروى النسائي من حديث أبي ذر وأبي الدرداء " ومن أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عينه حتى يصبح كتب له ما نوى " .

(فصل)

قال الشهاب القرافي في كتاب الأمنية في إدراك النية: إنما قال -صلى الله عليه وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات " ولم يقل: "الأفعال بالنيات" لأن عمل معناه فعل فعلا له شرف وظهور، وفعل لمطلق الأثر؛ ولذلك قال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ولم يقل: "كيف عمل" لأنه أثر فيه عقاب واقتصام لا شرف ولا تعظيم. وقال تعالى مما عملت أيدينا وأكثر ما ورد في القرآن من ذكر الجزاء بلفظ العمل لا بلفظ الفعل، نحو: بما كنتم تعملون نعم أجر العاملين ، من عمل صالحا .

قال: وإذا تقرر ذلك حسن حتما أن يقال: الأعمال بالنيات دون الأفعال بالنيات؛ لأن التقدير في خبر المبتدأ المحذوف: الأعمال معتبرة بالنيات، وإنما يراد اعتبارها إذا كانت تصلح لله تعالى، ولا يصلح له إلا ما كان شريفا في نفسه، فإذا أضيف إليه النية صار يترتب عليه الثواب عند الله تعالى .

قال: ويسمى الجرم عملا وإن كان منهيا عنه مبعدا عن الله تعالى؛ لأنه عظيم في ظهوره خيرا أو شرا، قال: ولذلك منع بعض العلماء من متأولي الحديث الوضوء؛ حيث استدل به على وجوب النية في الوضوء فقال: لا نسلم أن الوضوء من الأعمال، بل هو من الأفعال، والحديث إنما ورد في الأعمال، وتقريره أن الطهارة شرط ووسيلة لا مقصد في نفسه، فلم يصل شرف رتبة المقاصد، فليس فيه من الظهور والشرف ما في الصلاة ونحوها. فلا نسلم اندراجه وهو منع مشهور من قبل الحنفية .

(فصل)

في حد النية: قال الجوهري : النية العزم، وقال الخطابي : هي قصدك الشيء بقلبك وتحري الطلب منك له، وقيل: هي عزيمة القلب، وقال التيمي: هي وجهة القلب. وقال البيضاوي: هي عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصها بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء لوجه الله تعالى، وامتثالا لحكمه .

وقال النووي : النية القصد وهو عزيمة القلب، وتعقبه الكرماني [ ص: 37 ] بأن المتكلمين قالوا: القصد إلى الفعل هو ما نجده في أنفسنا حال الإيجاد، والعزم قد يتقدم عليه ويقبل الشدة والضعف بخلاف القصد، ففرقوا بينهما من وجهين، فلا يصح تفسيره به. وكلام الخطابي أيضا مشعر بالمغايرة بينهما .

وقال العراقي في شرح التقريب: اختلف في حقيقة النية. فقيل: هي الطلب، وقيل: الجد في الطلب، ومنه قول ابن مسعود : "من ينو الدنيا تعجزه" أي يجد في طلبها، وقيل: القصد للشيء بالقلب، وقيل: عزيمة القلب. وقال الزركشي في قواعده: حقيقة النية ربط القصد بمقصود معين. والمشهور أنها مطلق القصد إلى الفعل. وقال الماوردي : هي قصد الشيء مقترنا بفعله فإن قصده وتراخى عنه فهو عزم .

(فصل)

قال القرافي في كتاب الأمنية: إن جنس النية هو الإرادة، وهي الصفة المخصصة لأحد طرفي الممكن بما هو جائز عليه من وجود أو عدم، أو هيئة دون هيئة، أو حالة دون حالة، أو زمان دون زمان، وجميع ما يمكن أن يتصف الممكن به بدلا من خلافه أو ضده أو نقيضه أو مثله، غير أنها في الشاهد لا يجب لها حصول مرادها، وفي حق الله تعالى يجب لها ذلك؛ لأنها في الشاهد عرض مخصوص مصرف بالقدرة الإلهية والمشيئة الربانية هي ومرادها، وفي حق الله تعالى معنى ليس بعرض، واجبة الوجود، متعلقة بذاتها، أزلية، واجبة النفوذ فيما تعلقت به، ثم الإرادة متنوعة إلى العزم والهم والنية والشهوة والقصد والاختيار والقضاء والقدرة والعناية والمشيئة; فهي عشرة ألفاظ .

فالعزم: هو الإرادة الكائنة على وفق الداعية، والداعية ميل يحصل في النفس لما أشعرت به من اشتمال المراد على مصلحة خالصة أو راجحة .

والميل: جائز على الخلق، ممتنع على الله تعالى، فلا جرم لا يقال في حق الله تعالى: عزم بمعنى أراد الإرادة الخاصة المصممة، بل عزائم الله تعالى طلبه الراجع إلى كلامه النفسي، فظهر الفرق بين العزم والإرادة .

وأما الهم: في مثل قوله تعالى: ولقد همت به وهم بها وفي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من هم بحسنة" فالظاهر أنه مرادف، وأن معناهما واحد، ويستحيل على الله تعالى كما يستحيل العزم .

وأما النية: فهي إرادة تتعلق بإمالة الفعل إلى ما يقبله لا بنفس الفعل من حيث هو فعل، ففرق بين قصدنا لفعل الصلاة وبين قصدنا لكون ذلك قربة أو فرضا أو نفلا أو أداء أو قضاء، أو غير ذلك مما هو جائز على الفعل .

فالإرادة المتعلقة بأصل الكسب والإيجاد هي المسماة بالإرادة، ومن جهة أن هذه الإرادة مميلة للفعل إلى بعض جهاته الجائزة عليه تسمى من هذا الوجه نية، فصارت الإرادة إذا أضيف إليها هذا الاعتبار نية، وهذا الاعتبار هو تمييز الفعل عن بعض رتبه جائز على الله تعالى، فإنه سبحانه قد يريد بالفعل الواحد نفع قوم وضر قوم وهداية قوم، إلى غير ذلك مما هو جائز على فعله، غير أن أسماء الله توقيفية، فلا يسمى الله تعالى ناويا ويسمى مريدا. هذا إن اقتصر على هذا الاعتبار العام وهو مطلق إمالة الفعل إلى بعض جهاته حكم شرعي، فينوي إيقاع الفعل عن الوجه الذي أمر الله تعالى به، أو نهى عنه، أو أباحه .

ومنهم من يقول: بل أخص من هذا، وهو أن يميل الفعل إلى جهة التقريب والعبادة. وعلى التقديرين فيستحيل على الله تعالى معناها بخلاف المعنى العام .

وتفارق النية الإرادة من وجه آخر وهو أن النية لا تتعلق إلا بفعل الناوي، والإرادة تتعلق بفعل الغير، كما يريد معونة الله تعالى وإحسانه، وليست فعلنا .

وأما الشهوة: فهي إرادة متعلقة براحات البشر كالملاذ ودفع الآلام، فيستحيل على الله تعالى .

وأما القصد: فهو الإرادة الكائنة بين جهتين، كمن قصد الحج من مصر ومن غيرها، وهو بهذا المعنى مستحيل على الله تعالى .

وأما الاختيار: فهو الإرادة الكائنة بين شيئين فصاعدا، ومنه: واختار موسى قومه سبعين رجلا أي: أرادهم دون غيرهم مضافا إلى اعتقاد رجحان المختار، وهو جائز على الله تعالى، قال تعالى: ولقد اخترناهم على علم على العالمين .

وأما القضاء فهو الإرادة المقرونة بالحكم الخبري، فقضاء الله تعالى لزيد بالسعادة إرادته سعادته مع إخباره بكلامه النفسي عن سعادته، ومنه قضاء الحاكم إذا أخبر عن حكم الله تعالى في تلك الواقعة إخبارا إنشائيا؛ ولذلك تعذر نقضه بخلاف الفتيا .

وأما العناية: فهي الإرادة المتعلقة بالشيء على نوع من الحصر والتخصيص؛ ولذلك قال العوفي: إياك أعني واسمعي يا جارة. أي: أخصك دون غيرك، ولم يقل: إياك أريد .

ويقولون: ما يعني بكلامه؟ أي؟ ما يخصه به من المعاني التي يحتملها [ ص: 38 ] دون غيره، وهذا التفسير جائز على الله تعالى، غير أن أسماءه توقيفية، فلا يقال: الله عان، وإن قيل مريد .

وأما المشيئة: فالظاهر أنها مرادفة للإرادة. وقالت الحنفية: هي مباينة، وجعلوها مشتقة من الشيء، والشيء اسم الموجود، حتى قالوا: إذا قال الحالف: إن شئت دخول الدار فعبدي حر، فأراد دخول الدار لا يعتق حتى يدخل، ولا تكفي الإرادة .

وأطلنا في كشف كتب اللغة ولم نجد للمشيئة معنى إلا الإرادة، فهذه التفاسير والتغايرات بين هذه المعاني العشرة يساعدها عليها الاستعمال والأصول الموجودة لعدم الترادف، فتلخص أن النية غير التسعة الباقية؛ لما ذكر من خصوصيتها وخصوصيات كل من التسعة المفقودة في النية، فيجزم الناظر بالفرق حينئذ، ولا يضر كون الاستعمال قد يتوسع فيه، فيستعمل أراد ومراده نوى أو عزم أو قصد أو عنى، فإنها متقاربة المعاني، حتى يكاد يجزم فيها بالترادف تكثيرا لفوائد اللغة .

قال: وبهذا تظهر الحكمة في قوله -صلى الله عليه وسلم-: " الأعمال بالنيات " ولم يقل: بالإرادات والعنايات، أو غير ذلك، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرد إلا الإرادة الخاصة المميلة للفعل إلى جهة الأحكام الشرعية، كما تقدم في تفسير النية .

(فصل)

سئل الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى- عن قول الفقهاء بوجوب مقارنة النية للتكبير، وكيف يكلف المرء بذلك؟! ومعلوم أن الفرضية والظهرية والأدائية ونية التقرب إلى الله تعالى واجبة، فكيف يخطر بباله هذه الأمور حال افتتاح الصلاة، وأنى يتصور ذلك؟!

فأجاب: أمر النية سهل في العبادات، وهو مثل النية في العاديات، وإنما يتعسر بسبب الجهل بحقيقة النية، أو بسبب الوسوسة التي هي نوع اضطراب وفساد في الفكر، فلا بد من معرفة حقيقة النية، وإنما يلتئم أمر النية بقصد وعلم، والقصد فنان، وللعلم المفتقر إليه متعلقان .

أما الفن الأول من القصد: فهو القصد إلى الفعل، وذلك ما يصير به الفعل اختياريا، كالهوي إلى السجود مثلا، فإنه تارة يكون بقصد وتارة يسقط الإنسان على وجهه بصرعة أو صدمة; فهذا يضاده الاضطرار .

والفن الثاني: كالعلة لهذا القصد، وهو الانبعاث لإجابة الداعي، وقد يسمى باعثا، فإنك إذا قمت عند اجتياز إنسان بك فلك قصد القيام بكل حال، فإن القيام لا يقع اضطرارا ولكن قد يكون غرضك في القيام احترام ذلك الإنسان، وقد يكون غرضك أن تلبس ثوبا وتسرج دابة وتخرج إلى السوق، أو غرض آخر من الأغراض .

فإن كان المحرك الباعث على اختيار القيام احترام ذلك الإنسان يقال: نويت تعظيمه، وإن كان غرضك الخروج إلى السوق نويت الخروج وكيفما نويت، فالقيام لا يخلو عن إرادة قصد متعلق بمعنى القيام، ولكن القصد إلى القيام لا ينبعث من النفس إلا إذا كان في القيام غرض، فذلك الغرض هو المنوي، والنية إذا أطلقت في غالب الأمر أريد بها انبعاث القصد متوجها إلى ذلك الغرض علة تحريك قصد القيام، وقصد القيام إجابة لتحريك ذلك الغرض وانبعاث إليه، وقصد الفعل لا ينفك عند التكبير؛ إذ اللسان لا يجري عليه كلام منظوم اضطرارا. والتكبير قد ينفك عند النية; فبهذا تعلم أن النية عبارة عن إجابة الباعث المحرك، فهذا تحقيق نوعي القصد .

وأما العلم: فلا بد منه؛ إذ لا قصد إلا إلى معلوم، والقصد الأول يستدعي علما، فإن من لا يعلم القيام ولا التكبير لا يمكنه أن يقصده، والقصد الثاني أيضا يستدعي العلم، فإن الغرض إنما يكون باعثا في حق من علم الغرض، فمن لا يعلم معنى الاحترام والتعظيم لا يمكنه أن يقوم لغيره على نية الاحترام والتعظيم .

فلنرجع إلى القصد الثاني الذي هو النية، وهي خطوة واحدة ليس فيها تعدد حتى يعسر جمعها. نعم يمكن استدامتها بضدها وهو قصد شيء آخر، كما لو ابتدأ القيام للاحترام ثم ندم عليه، وقبل إتمام القيام عرض له قصد الخروج إلى السوق فاستتم القيام على ذلك القصد، أو بضد شرطها وهو الغفلة عن العلم بالاحترام، فإن العلم المقصود شرط لبقاء القصد، ولا عسر في استدامته لهذا القصد من أول التكبير إلى آخره، فإن التكبير لفظ مختصر يتم في لحظة ويبعد طريان ضد في دوامه بحيث يحس بانقطاعه قبل تمام التكبير، وإذا لم يحس بانقطاعه فلا يعتبر من الوسوسة ما يطرأ فيها .

وأما العلم: فله متعلقان، أحدهما: نفس الفعل، وهو شرط القصد الأول، فإنه لا يقوم لتعظيم زيد من لا يعلم القيام، فلا بد وأن يعلم ما به [ ص: 39 ] التعظيم، والتعظيم بقيام مع الإقبال على ذاك الشخص تعرضا بدخوله فإنه لو قام مستدبرا إياه، أو بعد انصرافه لم يكن تعظيما، فهذا علم بما به التعظيم .

والعلم الثاني: وهو شرط القصد الآخر، وهو العلم بالمعظم، ووجهه وجوب تعظيمه، كالعلم بزيد الداخل، وكونه شريفا فاضلا مستحقا للتعظيم .

فهذه العلوم والقصود إذا فصلت باللسان ونظم العبارات طالت، وكان من ضرورتها الترتيب والتعاقب؛ حتى يكون البعض منها بعد البعض، سواء كان اللفظ باللسان أو بحديث النفس، ولا يكون حديث اللسان والنفس إلا بلغة عربية أو أعجمية، وليس في النية والعلم لغة ولا حرف ولا ترتيب، بل يجتمع منها في اللحظة الواحدة علوم كثيرة، والذهن لا يشعر بترتيب الألفاظ المعبرة عنها، ولكن تكون تلك العقود حاضرة، وتلك العلوم حاصلة في لحظة واحدة، وهي مدة الانتصاب، وهو مقترن به .

ولو لم يخطر تفصيل ذلك بحديث النفس ولم يقل بقلبه ولا بلسانه: نويت أن أنتصب قائما قياما مع الإقبال بالوجه والاقتران بالدخول؛ تعظيما لزيد الشريف الفاضل، ولو قال ذلك بلسانه وقلبه دل على خبل في عقله وجهل منه .

فكذلك الصلاة، فعل مخصوص كالقيام، والنية باعث مخصوص، وهو المنوي، وهو إيجاب الله تعالى واستيجابه، ويستدعي ذلك علوما وقصودا، ويحضر جميع ذلك مقرونا بهمزة التكبير من غير عسر، وإنما العسر إحضار الألفاظ المرددة على اللسان أو القلب دفعة واحدة، فأما حضور القصد في لحظة واحدة فلا يخفى؛ لأن القصد لحظة. وأما هذه العلوم فمضمون اجتماعها ثلاثة أمور:

أحدها: أن حضور الأخص كاف عن حضور الأعم، فإن المأمور به فعل لا كل فعل، بل فعل هو عبادة، ولا كل عبادة، بل عبادة هي صلاة هي ظهر، فإذا حضر في القلب الظهر أغنى عن إحضار الصلاة والعبادة والفعل بالبال، فإن العلم بالأعم يتضمنه حاضر في الذهن مفصلا .

الثاني: أن هذه العلوم إن منعت الوسوسة عن إحضارها معا وطلبت النفس تفصيلها بالنطق حتى اضطر إلى التعاقب، ولم يكن تعاقبا محسوسا، فهذا معفو عنه .

الثالث: أن التعاقب وإن كان محسوسا فإنا نجعل جميع المدة من همزة التكبير إلى الراء في حكم اللحظة الواحدة فإنها مدة قريبة .

(فصل)

قال ابن المنير : المشهور عند النظار حمل الحديث على العبادات، واتسع البخاري في الاستنباط فحمله عليها وعلى المعاملات، وتبع مالكا بسد الذرائع واعتبار المقاصد، فلو قصد اللفظ وصح القصد لغي اللفظ، وأعمل القصد تصحيحا وإبطالا .

قال: والاستدلال بهذا الحديث على سد الذرائع وإبطال الحيل من أقوى الأدلة، ووجه التعميم أن المحذوف المقدر الاعتبار، فمعنى الاعتبار في العبادات أجزاؤها وبيان مراتبها، وفي المعاملات والإيمان الرد إلى القصد .

(فصل)

قال السيوطي : قال العلماء: النية تؤثر في الفعل فيصير بها تارة حراما وتارة حلالا، وصورته واحدة، كالذبح مثلا، فإنه يحل الحيوان إذا ذبح لأجل الله ويحرمه إذا ذبح لغير الله، والصورة واحدة، وكذلك القرض في الذمة وبيع القرض بمثله إلى أجل صورتها واحدة، والأول قربة صحيحة والثاني معصية باطلة .

وقال ابن القيم في كتاب الروح: الشيء الواحد تكون صورته واحدة وهو ينقسم إلى محمود ومذموم، فمن ذلك التوكل والعجز، والرجاء والتمني، والحب لله والحب مع الله، والنصح والتأنيب، والهدية والرشوة، والإخبار بالحال والشكوى، فإن الأول من كل ما ذكر محمود وقرينه مذموم، والصورة واحدة، ولا فارق بينهما إلا القصد .

(فصل)

قال الزركشي في القواعد: النية تنقسم إلى نية التقرب ونية القصد، فالأولى تكون في العبادات، والثانية تكون في المحتمل للشيء وغيره، وذلك كأداء الديون إذا أقبضه من جنس حقه فإنه يحتمل التمليك هبة وقرضا ووديعة وإباحة، فلا بد من نية تميز إقباضه عن سائر أنواع الإقباض، ولا يشترط نية التقرب .

قال: ولا خلاف في أن النية في الصلاة والصوم التقرب، واختلف في الوضوء وفي الزكاة: هل هي فيها للتقرب أو للتميز بين الفرض والنفل .

(فصل)

قال السيوطي : استثنى الغزالي في المستصفى والإمام في المحصول مما تجب فيه النية النية، فإنها [ ص: 40 ] لو افتقرت إلى نية أخرى لزم التسلسل .

وقال الكرماني: إنها خارجة من الحديث بقرينة العقل؛ دفعا للتسلسل، وقد ذكر الزركشي أن في ذلك نزاعا وكأنه يشير إلى قول القرافي: إن النية منصرفة إلى الله تعالى بصورتها فلم تفتقر إلى نية أخرى، قال: ولا حاجة إلى التعليل بأنها لو افتقرت إلى نية لزم التسلسل؛ ولذلك يثاب الإنسان على نية مفردة ولا يثاب على الفعل مفردا لانصرافها بصورتها إلى الله تعالى، والفعل متردد بين ما هو لله وبين ما هو لغيره .

قال السيوطي : واستثني من الحديث أيضا معرفة الله تعالى حتى قال بعضهم: إن دخوله في الحديث محال؛ لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف، فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة، وتعقبه البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا؛ لأن كل ذي عقل مثلا يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل ليتحققه لم تكن النية محالا. انتهى .

وقال العز بن عبد السلام : لا مدخل للنية في قراءة القرآن والأذكار وصدقة التطوع ودفن الميت ونحوها مما لا يقع إلا على وجه العبادة، وأما قوله -صلى الله عليه وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات " فالمراد به الأعمال التي تقع تارة طاعة وغير طاعة أخرى بدليل ذكر الهجرة في سياق الحديث .

وأما هذه القربات ونحوها مما شرع لمصلحة عاجلة قصدا أو كان بصورة عبادة فعدم وجوب النية فيها لعدم إرادتها، ولخروجها عن الإرادة حسا لصورة العمل إن قيل بعموم الأعمال للطاعة والقربة .

(فصل)

قال السيوطي : استدل بمفهوم الحديث على أن ما ليس بعمل لا يشترط فيه النية، وذلك التروك كترك الزنا وشرب الخمر، ومنه إزالة النجاسة في الأصح، قاله النووي، ونازعه الكرماني بأن الترك أيضا فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من القصد .

قال الحافظ في الفتح: وتعقب بأن قوله: "الترك فعل" مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بما هو متفق عليه .

قال السيوطي : الشرط أن يكون متفقا عليه بين المانع والمستدل فقط لا بين غيرهم أيضا، والنووي موافق على أن الترك فعل الكف، ثم قال الحافظ: أما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد؛ لأن المبحوث فيه: هل يلزم في التروك بحيث يقع العصيان بتركها؟ أو الذي أورده: هل يحصل الثواب بدونها؟ والتفاوت بين المقامين ظاهر، والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت، فكف نفسه عنها؛ خوفا من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه لا الترك المجرد .

(فصل)

قال الخلخالي في شرح المصابيح: حرف التعريف في الأعمال لا يسوغ حمله على تعريف الماهية؛ لعدم افتقار مطلق الأعمال إلى النية من حيث هو المطلق، بل المفتقر إليها هو إفرادها، فيتعين أن يكون للعموم، وخص البعض بالإجماع، أو للعهد وهو الأعمال التي عهدت من الشرع، وهي العبادات؛ لأن غيرها لا يفتقر إلى النية .

(فصل)

ذكر ابن المنير ضابطا لما يشترط فيه النية وما لا يشترط، فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل عمل ظهرت فائدته ناجزة وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملائمة بينهما فلا يشترط النية فيه إلا لمن قصد بعمله معنى آخر، يترتب عليه الثواب .

قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقق مناط التفرقة .

قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه؛ لأنه لا يكفي أن يقع إلا منويا، ومتى فرضت النية معقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي .

وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن:

أحدها: التقرب إلى الله تعالى؛ فرارا من الرياء .

والثاني: التميز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود .

والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان .

(فصل)

قال الشهاب القرافي : النية قسمان: فعلية موجودة، وحكمية معدومة، فإذا نوى المكلف أول العبادة فهذه نية فعلية، ثم إذا ذهل عن النية حكم صاحب الشرع بأنه ناو ومتقرب، فهذه هي النية الحكمية.

[ ص: 41 ] أي: حكم الشرع ببقاء حكمها؛ لأنه موجود، وكذلك الإخلاص والإيمان والنفاق والرياء، وجميع أحوال القلب إذا شرع فيها واتصف القلب بها كانت فعلية، وإذا ذهل عنها حكم صاحب الشرع ببقاء أحكامها لمن كان اتصف بها قبل ذلك، حتى لو مات الإنسان مغمورا بالمرض حكم صاحب الشرع له بالإسلام المتقدم بالولاية والصديقية وجميع المعارف المتقدمة، وإن لم يتلفظ بالشهادة عند الموت، وعكسه يحكم له بالكفر والنفاق وجميع مساوئ الأخلاق، وإن كان لا يستحضر فيها شيئا عند الموت، ولا يتصف بها، بل يوم القيامة الأمر كذلك .

ومنه قوله تعالى: إنه من يأت ربه مجرما مع أنه لا يكون يوم القيامة مجرما ولا كافرا ولا عاصيا لظهور الحقائق عند الموت، وصار الأمر ضروريا، فمعناه: محكوما له بالإجرام كما يحكم لغيره بالإيمان، واكتفى صاحب الشرع بالإيمان والنية الحكمية للمشقة في استمرارها بالفعل .

(فصل)

وقال أيضا في نية الحسنة: يثاب عليها حسنة واحدة، وفعل الحسنة يثاب عليها عشرة؛ لأن الأفعال هي المقاصد والنيات وسائل، والوسائل أخفض رتبة من المقاصد .

وقال الكرماني : من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، فيلزم أن من جاء بنية الحسنة فله عشر أمثالها فلا يبقى فرق بين الحسنة ونية الحسنة، قال السيوطي : لا نسلم أن من جاء بنية الحسنة فقد جاء بالحسنة، بل يثاب على نية الحسنة، فظهر الفرق. اهـ .

قلت: قال بعض الأفاضل: وكنت بحثت مع السراج البلقيني بالخشابية بجامع عمرو : هل تضعف هذه الحسنة أيضا؟ وقلت: ينبغي أن تضعف لقوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية، فقال: نعم، وتضعف من جنس ما هم فيه. اهـ. وهو كلام حسن .

(فصل)

نقل الكرماني في توجيه الخبر المتقدم: " نية المؤمن خير من عمله " ستة أوجه تقدم ذكرها، ثم قال: أو أن المراد: نية المؤمن خير من عمل الكافر، كما قيل: ورد ذلك حين نوى مسلم بناء قنطرة فسبق كافر إليها. اهـ .

قال السيوطي : وهي سبع احتمالات في تأويل الخبر المذكور، وكلها حسنة إلا الأخير فإنه باطل لا أصل له .

وقال البيهقي في الشعب: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: وسئل الأستاذ أبو سهل الصعلوكي عن معنى هذا الخبر؟ فقال: لأن النية تخلص الأعمال، والأعمال بمقابلة الرياء والعجب .

وأخرج بسنده عن أحمد بن يحيى ثعلب قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: " نية المؤمن خير من عمله " لأن النية لا يدخلها الفساد، والعمل يدخله الفساد .

قال البيهقي : وإنما أراد بالفساد الرياء، فيرجع ذلك إلى ما قال الأستاذ أبو سهل، قال: وقد قالوا: النية دون العمل تكون طاعة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة " والعمل دون النية لا يكون طاعة. اهـ .

قلت: ووجدت في هامش منتهى الآمال عند ذكر الكرماني الوجه الأخير الذي أبطله السيوطي ما نصه: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن هذا الحديث فأجاب عنه بجوابين:

أحدهما: أن هذا ورد على سبب، وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعد بثواب على حفر بئر، فنوى عثمان -رضي الله عنه- أن يحفرها، فسبق إليها كافر فحفرها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " نية المؤمن " يعني عثمان " خير من عمله " يعني الكافر .

ونظر فيه بعضهم بأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة، وعمل الكافر لا خير فيه البتة.

وأجاب بأن تسميته خيرا باعتباره في نفسه، وإن لم يثب عليه بدليل أنه لو أسلم أثيب عليه من غير تضعيف، كما ورد في مسند البزار أنه إذا أسلم يثاب على كل طاعة حسنة واحدة من غير تضعيف. لكن في الصحيح " أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لشخص أسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير " اهـ .

والجواب الثاني: أن النية المجردة من المؤمن خير من عمله المجرد عن النية، وهذا قد تقدم بيانه آنفا .

(فصل)

في ألفاظ وردت عن السلف طبق ما ذكره المصنف .

أخرج الدارمي عن ابن عباس قال: "إنما يحفظ حديث الرجل على قدر نيته".

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب النية والإخلاص، والدينوري في المجالسة عن عثمان بن واقد قال: قيل لنافع بن جبير بن مطعم : "ألا تشهد الجنازة، قال: كما أنت حتى أنوي، ففكر هنيهة ثم قال: امض".

وأخرج أيضا عن عبد الرحمن بن زيد قال: "كان أبي يقول: يا بني انو في كل شيء تريده الخير، حتى خروجك [ ص: 42 ] إلى الكناسة في حاجة".

وأخرج البيهقي في الشعب عن يونس بن عبد الأعلى قال، قال الشافعي : "يا أبا موسى لو جهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل له، فإذا كان كذلك فأخلص عملك ونيتك لله".

وأخرج البيهقي أيضا من طريق سفيان، عن زيد قال: "ليسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم" .

وأخرج عن سفيان في قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه قال: ما أريد به وجهه.

وأخرج عن الحسن في قوله تعالى: إن إبراهيم لحليم أواه منيب قال: "كان إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله، وإذا نوى نوى لله " .

وأخرج عن عوف قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما أراد رجل من الخير شيئا إلا سار في قلبه سورتان، فإذا كانت الأولى لله فلا يحزنك الآخرة.

وأخرج عن الحسن قال: "ما من أحد عمل عملا إلا سار في قلبه سورتان فإذا كانت الأولى لله فلا تحزنه الآخرة".

هذا ما يتعلق بالنية، وسيأتي بقية الكلام على بعض أحكامها في الباب الآتي. والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية