إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان حقيقة الإخلاص .

اعلم أن كل شيء يتصور أن يشوبه غيره ، فإذا صفا عن شوبه وخلص عنه سمي خالصا ويسمى الفعل المصفي المخلص إخلاصا ، قال الله تعالى : من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث ، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به والإخلاص يضاده الإشراك فمن ليس مخلصا فهو مشرك ، إلا أن الشرك درجات ، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية ، والشرك منه خفي ومنه جلي ، وكذا الإخلاص والإخلاص وضده يتواردان على القلب فمحله القلب وإنما يكون ذلك في القصود والنيات .

وقد ذكر حقيقة النية ، وأنها ترجع إلى إجابة البواعث فمهما كان الباعث واحدا على التجرد سمي الفعل الصادر عنه إخلاصا بالإضافة إلى المنوي ، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب كما أن الإلحاد عبارة عن الميل ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك ، ولسنا نتكلم فيه إذ قد ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات وأقل أموره ما ورد في الخبر من إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربع أسام : يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر .

وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر ، إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس ومثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يعتق عبدا ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر ، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده أو ليهرب عن عدو له في منزله أو يتبرم بأهله وولده أو بشغل هو فيه فأراد أن يستريح منه أياما أو ليغزو وليمارس الحرب ، ويتعلم أسبابه ويقدر به على تهيئة العساكر وجرها أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه به ليراقب أهله أو رحله أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال ، أو ليكون عزيزا بين العشيرة أو ليكون عقاره أو ماله محروسا بعز العلم عن الأطماع أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص عن كرب الصمت ويتفرج ، بلذة الحديث .

أو تكفل بخدمة العلماء الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس أو لينال به رفقا في الدنيا أو كتب مصحفا ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه أو حج ماشيا ليخفف عن نفسه الكراء أو توضأ ليتنظف أو يتبرد .

أو اغتسل لتطيب رائحته ، أو روى الحديث ليعرف بعلو الإسناد أو اعتكف في المسجد ليخف كراء المسكن .

أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام ، أو ليتفرغ لأشغاله ، فلا يشغله الأكل عنها أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه في السؤال عن نفسه ، أو يعود مريضا ليعاد إذا مرض ، أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله ، أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير ، ويذكر به ، وينظر إليه بعين الصلاح والوقار ، فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى .

ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور ، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص ، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى ، وتطرق إليه الشرك .

وقد قال تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشركة .


بيان حقيقة الإخلاص

(اعلم ) وفقك الله تعالى أن الإخلاص شرط في سائر العبادات، وهو معنى قوله: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين وقوله: إياك نعبد وقد قدمنا غيرما مرة أن رؤية المنة لله تعالى واجبة للنعمة، وليس لها حقيقة إلا التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى الله تعالى بالفقر والفاقة وطلب الاستعانة، وهو معنى ما أمرنا به بقوله: وإياك نستعين ولا نعمة لله على عبده أفضل من الإيمان به، والعمل لأجله، فهذا وجه وجوب الإخلاص في سائر العبادات .

وأما وجه استحبابها في سائر التقلبات فإن العبد البار لا يتحرك إلا لسيده؛ لأن القوة التي يتحرك بها مكتسبة من تغذية نعمة سيده؛ لأن حقيقة العبد أن لا يملك من نفسه ولا لنفسه شيئا؛ إذ هو خالقه ورازقه، وعليه توليه إن أحسن؛ لحكمة الكرم، وله أن يعاقبه إن أساء، فما أوضح هذا! وما أعزه في القلوب علما وحالا وعملا!

ولأجل عزته أوجب الله تعالى تكريره على ألسنتنا وقلوبنا في اليوم والليلة سبع عشرة مرة لتخلص له أعمالنا، ونعتمد عليه في جميع أحوالنا، فإذا كان الإخلاص هو الإيمان والطاعات وبه تمامهما ونماؤهما وجب شرح حقيقته وتفصيل درجاته؛ ليظهر بذلك الواجب من المستحب .

فاعلم (أن كل شيء يتصور أن يشوبه ) أي: يخلطه (غيره، فإذا صفا عن شوبه ) أي: خلطه (وخلص عنه سمي خالصا ) لخلوصه عن الشوب (وسمي الفعل المصفي المخلص إخلاصا، قال الله تعالى: من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فإنما خلوص اللبن أن لا يكون فيه شوب من الدم والفرث، ومن كل ما يمكن أن يمتزج به ) .

وعبارة القوت: وحقيقة الإخلاص سلامته من وصفين: الرياء والهوى؛ ليكون خالصا، كما وصف الله تعالى الخالص من اللبن، فكان بذلك تمام النعمة علينا، فقال: من بين فرث ودم لبنا خالصا فلو وجدوا فيه أحد الوصفين من فرث أو دم لم يكن خالصا، ولم تتم النعمة به علينا، ولم تقبله نفوسنا .

فكذلك معاملته لله تعالى إذا شابها رياء بخلق أو هوى من شهوة نفس لم تكن خالصة، ولم يتم بها الصدق والأدب في المعاملة، ولم يقبله الله تعالى منا. اهـ .

(والإخلاص ) وهو تجرد الباعث الواحد (يضاده الإشراك ) وهو أن يشترك باعثان (فمن ليس مخلصا فهو مشرك، إلا أن الشرك درجات، فالإخلاص في التوحيد يضاده التشريك في الإلهية، والشرك منه خفي وجلي، وكذا الإخلاص وضده ) أي: الإشراك (يتواردان على القلب فمحمله القلب ) بالاتفاق منهم، ولو قال: فهو محلهما كان أحسن .

(وإنما يكون ذلك في القصود والنيات، وقد ذكرنا حقيقة النية، وأنها ترجع إلى إجابة البواعث [ ص: 50 ] فمهما كان الباعث واحدا سمي الفعل الصادر منه إخلاصا بالإضافة إلى المنوي، فمن تصدق وغرضه محض الرياء فهو مخلص ) بهذا الاعتبار (ومن كان غرضه محض التقرب إلى الله تعالى فهو مخلص ) أيضا بهذا الاعتبار، فإطلاق لفظ الإخلاص على كل منهما جائز (ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الإخلاص بتجريد قصد التقرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب ) وهو أحد الجانبين .

(كما أن الإلحاد ) لغة (عبارة عن الميل ) المطلق سواء كان عن باطل أو إلى باطل (ولكن خصصته العادة بالميل عن الحق ) إلى الباطل، وهو أحد الجانبين (ومن كان باعثه مجرد الرياء فهو معرض للهلاك، ولسنا نتكلم فيه ) الآن (إذ ذكرنا ما يتعلق به في كتاب الرياء من ربع المهلكات ) فلا نعيده (وأقل أموره ما ورد في الخبر من أن المرائي ) بأعماله (يدعى يوم القيامة بأربعة أسام: يا مرائي يا مخادع يا مشرك يا كافر ) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب النية والإخلاص، وقد تقدم .

(وإنما نتكلم الآن فيمن انبعث لقصد التقرب ) إلى الله تعالى (ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر، إما من الرياء أو من غيره من حظوظ النفس ) جميعا، لكن من الحظوظ ما يتصل أصله، ومنها ما ينقص كماله .

أما الرياء فهو أن يطلب الرجل بعمله حمد الناس، وطلب نفعهم، ودفع ذمهم، فإن العامل إذا تجرد لهذا الباعث أحبط العمل، وأفسد الصلاة، وأوجب المقت والنكال والعذاب الأليم، وذلك على قدر المراءى به والمراءى لأجله .

أما المراءى به فهي الطاعات، وذلك إما بأصولها أو بأوصافها، وكل منهما على ثلاث درجات، تقدم تفصيلها في كتاب ذم الرياء .

وأما ما يراءى لأجله فله أيضا ثلاث درجات، وقد ذكرت في الكتاب المذكور، وكذا درجات الرياء الخفي .

(و ) أما الشوائب التي هي حظوظ النفس فله أمثلة، وقد أشار المصنف إلى ذلك بقوله (مثال ذلك أن يصوم ) العبد (لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يعتق عبدا ) من عبيده (ليتخلص من مؤنته وسوء خلقه ) وشره (أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو يتخلص من شر يعرض له في بلده ) فيخرج هاربا (أو ليهرب من عدو له في منزله ) لا يطيق دفعه (أو يتبرم بأهله وولده ) أي: يتضجر بهم (أو شغل هو فيه فأراد أن يستريح أياما ) من ذلك الشغل (أو يغزو ) العدو (ليمارس الحرب، ويتعلم أسبابه ومقدرته على تهيئة العساكر وجرها ) أو يقدم أحد الجهادين على غيره لغنيمة فيه (أو يصلي بالليل وله غرض في دفع النعاس عن نفسه ليراقب أهله أو رحله ) عن اللصوص (أو يتعلم العلم ليسهل عليه ) بذلك (طلب ما يكفيه من المال، أو يكون عزيزا بين العشيرة ) بذلك (أو ليكون عقاره وماله محروسا بعز العلم عن الأطماع ) فلا تمتد إليه .

(أو اشتغل بالدرس والوعظ ليتخلص من كرب الصمت، وينفرج بلذة الحديث ) وحلاوة التقرير (أو تكفل بخدمة العلماء أو الصوفية لتكون حرمته وافرة عندهم وعند الناس ) فيروه بعين التوقير والتبجيل (أو لينال به رفقا في الدنيا ) أي: في معيشته .

(أو كتب مصحفا ) أو كتابا من كتب العلم (ليجود بالمواظبة على الكتابة خطه ) أو دارس قرآنا مع جماعة في منزل من يستدعيه ليمارس حفظه ويثبت في ذهنه (أو حج ماشيا ليخفف على نفسه الكراء ) ويتوفر ماله (أو توضأ ليتنظف ) بالماء (أو يتبرد ) به (أو اغتسل لتطيب رائحته، أو روى الحديث ) إملاء (ليعرف بعلو الإسناد ) وكثرة المسموعات .

(أو اعتكف في المسجد ليخف عليه كراء المسكن، أو صام ليخفف عن نفسه التردد في طبخ الطعام، أو ليتفرغ لأشغاله، فلا يشغله الأكل عنها ) أو لتتوفر [ ص: 51 ] الأوقات حتى يصرفها في أشغاله .

(أو تصدق على السائل ليقطع إبرامه ) وإلحاحه (في السؤال عن نفسه، أو يعود مريضا ) ليعاد (إذا مرض، أو يشيع جنازة ليشيع جنائز أهله، أو يفعل شيئا من ذلك ليعرف بالخير، ويذكر به، وينظر إليه بعين الصلاح والوقار، فمهما كان باعثه هو التقرب إلى الله تعالى ولكن انضاف إليه خطرة من هذه الخطرات حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص، وخرج عن أن يكون خالصا لوجه الله تعالى، وتطرق إليه الشرك ) والإخلاص عبارة عما خلص من الرياء وهذه الحظوظ جميعا .

(وقد قال ) الله (تعالى ) فيما روي عنه: (أنا أغنى الشركاء عن الشركة ) رواه ابن جرير ، والبزار ، من حديث أبي هريرة ، وأوله: "من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو له كله، وقد تقدم" .

التالي السابق


الخدمات العلمية