إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص .

قال السوسي الإخلاص فقد رؤية الإخلاص ؛ فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص .

. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل ؛ فإن الالتفات إلى الإخلاص ، والنظر إليه عجب وهو من جملة الآفات .

والخالص ما صفا عن جميع الآفات ، فهذا تعرض لآفة واحدة وقال سهل رحمه الله تعالى الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض وفي معناه قول إبراهيم بن أدهم الإخلاص صدق النية مع الله تعالى .

وقيل لسهل أي شيء أشد على النفس ؟ فقال : الإخلاص إذ ؛ ليس لها فيه نصيب وقال رويم الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين .

وهذا إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة آجلا وعاجلا .

والعابد لأجل تنعم النفس بالشهوات في الجنة معلول بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين ، وهو الإخلاص المطلق .

فأما من يعمل لرجاء الجنة وخوف النار فهو مخلص بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب وجه الله تعالى فقط .


بيان أقاويل الشيوخ في الإخلاص:

وسبب اختلافهم -كما تقدم- إما بالنظر إلى اختلاف مقاماتهم وأحوالهم، وإما بالنظر إلى اختلاف أقوال السائلين، وإما بالنظر إلى تنوع درجات الإخلاص.

قال القشيري : الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر من: تصنع المخلوق، أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى .

ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية العقل عن ملاحظة المخلوقين. ويصح أن يقال: الإخلاص التوقي عن ملاحظة الأشخاص .

و (قال ) أبو يعقوب (السوسي ) رحمه الله تعالى: (الإخلاص فقد رؤية الإخلاص؛ فإن من شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى الإخلاص. وما ذكره إشارة إلى تصفية العمل عن العجب بالفعل؛ فإن الالتفات إلى الإخلاص، والنظر إليه ) والسكون به (عجب ) وسماه بعضهم رياء، كما سيأتي بيانه (وهو من جملة الآفات ) المتطرقة إليه (والخالص ما صفا عن جميع الآفات، فهذا تعرض لآفة واحدة ) أي: فلا تكون حقيقته جامعة لأفراده .

(وقال ) أبو محمد (سهل ) التستري -رحمه الله تعالى-: (الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة ) أي: لا يلتفت في سائر أحواله إلا إلى الله تعالى عبادة أو عادة (وهذه كلمة جامعة محيطة بالغرض ) .

قال صاحب القوت: وليكن ما تحرك فيه أو سكن عنه أو توقف عن الإقدام عليه ابتغاء مرضاة الله تعالى؛ تقربا إليه لأجل الله تعالى، فهذا أعلى النيات، وهو غاية الإخلاص.

وقال أيضا: إخلاص العبودية للربوبية أشد من إخلاص المعاملة، إلا أن من رزق المقام منها دخل بحقيقة إخلاص المعاملة ضرورة، فلا تنقية ولا تصفية، ولا عمل ولا مجاهدة، فكانوا مخلصين، وهذا مقام المحبين .

(وفي معناه قال إبراهيم بن أدهم ) -رحمه الله تعالى-: (الإخلاص صدق النية مع الله تعالى ) أي: في حركاته وسكناته؛ فإن الحركة والسكون اللذين هما أصلا الأفعال هما من أعماله التي يسأل عنها، فيحتاج إلى صدق النية فيهما، فليجعل جميع ذلك لله تعالى فيه بعقد واحد على مراتب من المقامات عنده، إما حبا لله وإجلالا له، وإما خوفا منه، أو رجاء له، أو لأجل ما أمره به، فينوي أداء الفرائض، أو لما ندبه فينوي المسارعة إلى الخير، أو فيما أبيح له فتكون نيته في ذلك صلاح قلبه، وإسكان نفسه، واستقامة حاله .

قال صاحب القوت: والنية عند قوم الإخلاص بعينه، وعند آخرين الصدق، وعند الجملة أنها صحة العقد، وحسن القصد، وهي عند الجماعة من أعمال القلوب، مقدمة في الأعمال، وأول كل عمل، وقد قال الله تعالى: اذكروا الله ذكرا كثيرا قيل في التفسير: خالصا، فسمي الخالص كثيرا، وهو ما خلصت فيه النية لوجه الله تعالى، ووصف ذكر المنافقين بالقلة فقال: يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا يعني: غير خالص. اهـ .

ويقرب من قول إبراهيم قول ذي النون -رحمهما الله تعالى- حين سئل عن الإخلاص فقال: الإخلاص لا يتم إلا بالصدق فيه، والصبر عليه، والصدق لا يتم إلا بالإخلاص فيه والمداومة عليه، نقله القشيري فبين الصدق والإخلاص تلازم، فمن أخلص في مقام، وصدق في سلوكه، وصبر عليه حتى أحكمه، نقله الله إلى ما فوقه .

وسئل الجنيد عن الصدق والإخلاص، فقال: بينهما فرق، الصدق أصل والإخلاص فرع، والصدق أصل كل شيء والإخلاص لا يكون إلا لله بعد الدخول في الأعمال، والأعمال لا تكون مقبولة إلا بهما .

وقال القشيري : سمعت أبا علي الدقاق يقول: الإخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق، والصدق التنقي عن مطالعة النفس، فالمخلص لا رياء له، والصادق لا إعجاب له. اهـ .

وما ذكره هو أوفى مراتب الإخلاص والصدق؛ فإن أعلاها أن لا يسكن العبد إلى عمله وحسنه، وإن كان صحيحا يراه فضلا من ربه .

(وقيل لسهل ) التستري -رحمه الله تعالى-: (أي شيء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص؛ لأنه ليس لها ) أي: للنفس (فيه ) أي: في الإخلاص (نصيب ) نقله القشيري ؛ وذلك لأن الغالب على عملها أن يكون لغرض ديني أو دنيوي، وما ذكره مختص بحال المريد السالك، فأما من كملت معرفته بمولاه اضمحلت لديه الأغراض فهو إنما يلتذ بالقرب .

(وقال ) أبو محمد (رويم ) بن أحمد البغدادي المتوفى سنة 302، كان جامعا بين [ ص: 55 ] التصوف والفقه، وكان يفتي على مذهب داود: (الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ) ولا حظا من الملكين، هكذا بهذه الزيادة نقله القشيري ، والمراد بالدارين دار الآخرة والدنيا، والملكين ملك اليمين وملك الشمال، أي: بأن يكون عمله لله، لا يريد به سواه، ولا من دنياه ولا من أخراه .

(وهذا ) الذي ذكره (إشارة إلى أن حظوظ النفس آفة ) أي: دخول حظ في العمل، وآفة تعرضه إما (آجلا ) في دار الآخرة (أو عاجلا ) في دار الدنيا (والعابد لأجل تنعم النفس بالشهوات في الجنة ) من أكل وشرب ونكاح وغير ذلك (معلول ) في عمله (بل الحقيقة أن لا يراد بالعمل إلا وجه الله تعالى ) فقط، ولا يمر بباله شيء من الحظوظ (وهو إشارة إلى إخلاص الصديقين، وهو الإخلاص المطلق ) والإخلاص الكامل، ويعبر عنه أيضا بإخلاص الإخلاص .

(فأما من يعمل لرجاء ) دخول (الجنة وخوف ) اقتحام (النار فهو مخلص ) مقيد، أي (بالإضافة إلى الحظوظ العاجلة ) في الدنيا (وإلا فهو في طلب حظ البطن والفرج ) في الآخرة (وإنما المطلوب الحق لذوي الألباب هو وجه الله تعالى فقط ) وإليه الإشارة في الخبر: "وعليون لذوى الألباب" .

التالي السابق


الخدمات العلمية