إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المرابطة الثالثة محاسبة النفس بعد العمل ولنذكر فضيلة المحاسبة ثم حقيقتها .

أما الفضيلة فقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وفي الخبر أنه عليه السلام جاءه رجل فقال يا رسول الله أوصني فقال أمستوص أنت فقال نعم قال إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه وإن كان غيا فانته عنه وفي الخبر وينبغي للعاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه وقال تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة وقال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب قدميه بالدرة إذا جنه الليل ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم وعن ميمون بن مهران أنه قال لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أبا بكر رضوان الله عليه قال لها عند الموت ما أحد من الناس أحب إلي من عمر ثم قال لها كيف قلت فأعادت عليه ما قال فقال لا أحد أعز علي من عمر .

فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة غيرها وحديث أبي طلحة حين شغله الطائر في صلاته فتدبر ذلك فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندما ورجاء للعوض مما فاته .

وفي حديث ابن سلام أنه حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا فقال أردت أن أجرب نفسي هل تنكره وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ثم فسر المحاسبة فقال إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول والله إنك لتعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات حيل بيني وبينك وهذا حساب قبل العمل ثم قال ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا والله لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك وقال الحسن في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا وهذا من معاتبة النفس كما سيأتي في موضعه وقال ميمون بن مهران التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح وقال إبراهيم التميمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفس أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا قلت فأنت في الأمنية فاعملي وقال مالك بن دينار سمعت الحجاج يخطب وهو يقول رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره رحم الله امرأ أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به رحم الله امرأ نظر في مكياله رحم الله امرأ نظر في ميزانه فما زال يقول حتى أبكاني وحكى صاحب للأحنف بن قيس قال كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء وكان يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا .


(المرابطة الثالثة محاسبة النفس بعد العمل ) ولواحقها الاعتصام والاستقامة (ولنذكر فضيلة المحاسبة ثم حقيقتها أما الفضيلة فقد قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ) ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده وتنكيره للتعظيم وأما تنكير نفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك (وهذه إشارة إلى أن المحاسبة على ما مضى من الأعمال ) أي : أنها تدل على النظر بعد الفراغ من العمل (ولذلك قال عمر رضي الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا ) ، رواه أبو نعيم في الحلية من طريق ثابت بن الحجاج وقد تقدم قريبا (وفي الخبر أنه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال يا رسول الله أوصني فقال استوص أنت ) أي : قابل وصيتي (فقال نعم قال إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه وإن كان غيا فانته عنه ) تقدم [ ص: 112 ] للمصنف ذلك قريبا من حديث عبادة بن الصامت وهو في كتاب الزهد لابن المبارك من مرسل أبي جعفر الهاشمي وتقدم الكلام عليه (وفي الخبر وينبغي للعاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه ) تقدم قريبا من حديث أبي ذر .

(وقال الله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ) تقدم الكلام عليه في كتاب التوبة (والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه ) بالندم عليه .

(وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ) إنه ليغان على قلبي و (إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) تقدم غير مرة .

(وقال الله تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) وذكر الكمال الصوفي أن هذه الآية تدل على النظر في بداية العمل (و ) يروى (عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب قدميه بالدرة إذا جنه الليل ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم ) وهذا يدل على المحاسبة بعد العمل (و ) يروى (عن ميمون بن مهران ) الجزري العابد (أنه قال لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه والشريكان ) إنما (يتحاسبان بعد العمل وروي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضوان الله عليه قال لها عند الموت ما أحد من الناس أحب إلي من عمر ثم قال لها كيف قلت فأعادت عليه ما قال فقال ما أحد أعز علي من عمر ) فأبدل أحب بأعز (فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة غيرها ) وبين الكلمتين فرق كبير (وحديث أبي طلحة ) زيد بن سهل الأنصاري رضي الله عنه (حين شغله الطائر في صلاته ) بأن أتبع نظره إليه حتى لم يدر كم صلى (فتدبر ذلك فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندما ورجاء للعوض عما فاته ) وهذا عقوبة التقصير وهي سنة الأولياء وقد تقدم في كتاب الصلاة (وفي حديث ) عبد الله (بن سلام ) رضي الله عنه (أنه حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا فقال أردت أن أجرب نفسي هل تنكره ) فهذه محاسبة بعد العمل وكان له من الأولاد يوسف وعبد الله وفي الصحيح عن سعد بن أبي وقاص قال ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام قال الطبري وغيره مات بالمدينة سنة 43 .

(وقال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى (المؤمن قوام على نفسه ) أي : كثير القيام عليها والمراعاة لها (يحاسبها لله وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ثم فسر المحاسبة فقال إن المؤمن يفجؤه الشيء ) أي : يرد عليه بغتة (يعجبه فيقول والله إنك لتعجبني وإنك لمن حاجتي ولكن هيهات حيل بيني وبينك ) أي : فيتركه (وهذا حساب قبل العمل ثم قال ويفرط منه الشيء ) أي : يصدر منه بدارا (فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا ) أي : لا يقبل عذري (والله لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله ) تعالى فهذا حساب بعد العمل .

(وقال أنس بن مالك ) رضي الله عنه (سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما وقد خرج ) لحاجته (وخرجت معه فدخل حائطا ) من الحيطان (فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط ) إذ تخلفت عنه (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو يعذبنك ) فهذا منه محاسبة للنفس .

(وقال الحسن ) البصري رحمه الله تعالى (في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي [ ص: 113 ] ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه ) ، رواه عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في كتاب مجاهدة النفس وروي عن مجاهد أنه قال بالنفس اللوامة تندم على ما فات وتلوم عليه رواه عبد بن حميد وابن جرير وروي مثله عن ابن عباس ورواه ابن المنذر .

(وقال ) أبو يحيى (مالك بن دينار ) البصري العابد رحمه الله تعالى (رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم زمها ) أي : حبسها وكفها كما تحبس الناقة بالزمام (ثم خطمها ) كما تخطم الناقة ثم (ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا وهذا من معاتبة النفس ) كما سيأتي في موضعه .

(وقال ميمون بن مهران ) الجزري العابد (التقي أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ) أي : ظالم يجور في حسابه مع رعيته (ومن شريك شحيح ) محب للدنيا .

(وقال إبراهيم ) بن يزيد بن الحارث (التميمي ) رحمه الله تعالى (مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفسي أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحا قلت فأنت في الأمنية فاعملي ) ، رواه ابن أبي الدنيا .

(وقال ) أبو يحيى (مالك بن دينار ) البصري رحمه الله تعالى (سمعت الحجاج ) بن يوسف الثقفي وهو أمير البصرة (يخطب ) على المنبر (وهو يقول رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره امرأ أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به امرأ نظر في مكياله امرأ نظر في ميزانه فما زال يقول امرأ امرأ حتى أبكاني ) ، رواه ابن أبي الدنيا (وحكى صاحب للأحنف بن قيس ) التميمي رضي الله عنه له صحبة (قال كنت أصحبه فقال كان عامة صلاته بالليل الدعاء وكان يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه يا حنيف ) وهو تصغير أحنف بإسقاط الزائد (ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا ) يعاتب نفسه بذلك رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس .

التالي السابق


الخدمات العلمية