إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
المرابطة الرابعة في معاقبة النفس على تقصيرها .

مهما حاسب نفسه فلم تسلم عن مقارفة معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى فلا ينبغي أن يهملها فإنه إن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي وأنست بها نفسه وعسر عليه فطامها وكان ذلك سبب هلاكها بل ينبغي أن يعاقبها فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته .

هكذا كانت عادة سالكي طريق الآخرة فقد روي عن منصور بن إبراهيم أن رجلا من العباد كلم امرأة فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست وروي أنه كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته فمكث كذلك زمانا طويلا فأشرف ذات يوم فإذا هو بامرأة فافتتن بها وهم بها فأخرج رجله لينزل إليها فأدركه الله بسابقه فقال ما هذا الذي أريد أن أصنع فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى فندم فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال هيهات هيهات رجل خرجت تريد أن تعصي الله تعود في صومعتي لا يكون والله له ذلك أبدا فتركها معلقة في الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت فسقطت فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض كتبه ذكره ويحكى عن الجنيد قال سمعت ابن الكريبي يقول أصابتني ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وتقصيرا فحدثتني نفسي بالتأخير حتى أصبح وأسخن الماء أو أدخل الحمام ولا أعني على نفسي فقلت واعجباه أنا أعامل الله في طول عمري فيجب له على حق فلا أجد في المسارعة وأجد الوقوف والتأخر آليت أن لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه وآليت أن لا أنزعها ولا أعصرها ولا أجففها في الشمس ويحكى أن غزوان وأبا موسى كانا في بعض مغازيهما فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى بفرت وقال إنك للحاظة إلى ما يضرك .

ونظر بعضهم نظرة واحدة امرأة فجعل على نفسه أن لا يشرب الماء البارد طول حياته فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش .

ويحكى أن حسان بن أبي سنان مر بغرفة فقال متى بنيت هذه ثم أقبل على نفسه فقال تسألين عما لا يعنيك لأعاقبنك بصوم سنة فصامها .

وقال مالك بن ضيغم جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر فقلنا إنه نائم فقال أنوم هذه الساعة هذا وقت نوم ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولا وقلنا له ألا نوقظه لك فجاء الرسول وقال هو أشغل من أن يفهم عني شيئا أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول: أقلت وقت نوم هذه الساعة أفكان هذا عليك ينام الرجل متى شاء وما يدريك أن هذا ليس وقت نوم تتكلمين بما لا تعلمين أما إن لله علي عهد ألا أنقضه أبدا لا أوسدك الأرض لنوم حولا إلا لمرض حائل أو لعقل زائل سوأة لك أما تستحين كم توبخين وعن غيك لا تنتهين قال وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته .

ويحكى عن تميم الداري أنه نام ليلة لم يقم فيها يتهجد فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع .

وعن طلحة رضي الله تعالى عنه قال انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء فكان يقول لنفسه ذوقي ونار جهنم أشد حرا أجيفة بالليل بطالة بالنهار فبينما هو كذلك إذ أبصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال غلبتني نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكن لك بد من الذي صنعت أما لقد فتحت لك أبواب السماء ولقد باهى الله بك الملائكة ثم قال لأصحابه تزودوا من أخيكم فجعل الرجل يقول له يا فلان ادع لي يا فلان ادع لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم عمهم فقال اللهم اجعل التقوى زادهم واجمع على الهدى أمرهم .

فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم سدده فقال الرجل اللهم اجعل الجنة مآبهم
.


ثم إن العبد إذا حاسب نفسه فرآها خانت وضيعت لزمه أمور أحدها أن يتدارك بالتوبة والجبر وقد تقدم فإن لم يستطع لغلبة الشهوة عالج نفسه بالمعاقبة وإليه أشار المصنف فقال (المرابطة الرابعة في معاقبة النفس على تقصيرها ) اعلم أنه (مهما حاسب ) العبد (نفسه فلم تسلم عن مقارفة معصية ) أي : ملابستها (وارتكاب تقصير في حق الله تعالى فلا ينبغي أن يهملها ) أي : يتركها هملا (فإنه إن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي وأنست بها نفسه ) وألفتها (وعسر عليه ) حينئذ (فطامها ) فإن الأنس بالشيء يوجب الجمود عليه (وكان ذلك سبب هلاكه بل ينبغي أن يعاقبها ) بما يلائم جنس الذنب ويقابله فإن لكل مرض علاجا (فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ) فإنه (ينبغي أن يعاقب البطن بالجوع وإذا نظر إلى غير محرم فينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر ) بأن لا يفتحها (وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته هكذا كانت عادة سالكي طريق الآخرة فقد روي عن منصور بن إبراهيم ) رحمه الله تعالى (أن رجلا من العباد كلم امرأة ) أجنبية (فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ثم ندم ) على ما صنع (فوضع يده على النار حتى فشت ) أي : يبست (وروي ) في بعض الأخبار (أنه كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته فمكث بذلك زمانا طويلا فأشرف ذات يوم ) من طاقة في تلك الصومعة (فإذا هو بامرأة فافتتن بها ) لبراعتها في الجمال (وهم بها فأخرج رجله لينزل إليها فأدركه الله بسابقة ) من عنايته فتذكر (فقال ما هذا الذي أريد أن أصنع فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى فندم فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال هيهات هيهات رجل خرجت تريد أن تعصي الله تعود معي في صومعتي لا يكون والله ذلك أبدا فتركها معلقة من الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى ) يبست و (تقطعت فسقطت فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض كتبه ذكره ويحكى عن ) أبي القاسم (الجنيد ) قدس سره أنه (قال سمعت ابن الكرتني ) هو شيخه وقد تقدم ذكره وأنه منسوب إلى كرتنا ناحية بخراسان ترجمه الخطيب في تاريخه (يقول أصابتني ليلة جنابة احتجت أن أغتسل وكانت [ ص: 116 ] ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وتقصيرا فحدثتني نفسي بالتأخير حتى أصبح وأسخن الماء أو أدخل الحمام ولا أعين على نفسي ) بالهلاك (فقلت واعجباه أنا أعامل الله في طول عمري فيجب على حق ) من حقوقه (فلا أجد في المسارعة وأجد الوقوف والتأخر آليت أن لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه وآليت أن لا أنزعها ولا أعصرها ولا أجففها في الشمس ) وهذه معاقبة تامة على النفس (ويحكى أن غزوان وأبا موسى ) إن كان أبو موسى هو الأشعري الصحابي فاسمه عبد الله بن قيس ولا أعرف في الصحابة من اسمه غزوان وفي التابعين غزوان بن عتبة بن غزوان المازني روى عن أبيه حديثا عند الطبراني وأبوه صحابي مشهور فيحتمل أن يكون هو المراد هنا والله أعلم (كانا في ) بعض (مغازيهم فتكشفت ) لهما (جارية ) جميلة الصورة (فنظر إليها غزوان ) نظر شهوة ثم رجع فندم (فرفع يده فلطم عينه ) لطمة (حتى نفرت ) من موضعها .

(وقال إنك للحاظة إلى ما يضرك ) ثم ظهر لي أن صاحب القصة مع أبي موسى هو عتبة بن غزوان فقد قال أبو نعيم في الحلية حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو بكر بن أبي داود حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي حدثني هارون بن رياب عن عتبة بن غزوان الرقاشي قال قال لي أبو موسى ما لي أرى عينك نافرة فقلت إني التفت التفاتة فرأيت جارية لبعض الجيش فلحظتها لحظة فصككتها صكة فنفرت فصارت إلى ما ترى فقال استغفر ربك ظلمت عينك أن لها أول نظرة وعليك ما بعدها (و ) قد تكون العاقبة على خلاف جنس المعصية وإنما هي على حسب ما اقتضاه رأي المعاقب كما حكي أنه (نظر بعضهم نظرة واحدة إلى امرأة ) أجنبية وكأنه قصد بها تلذذ النفس فندم (فجعل على نفسه أن لا يشرب الماء البارد طول حياته فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش ويحكى أن حسان بن أبي سنان ) البصري العابد روى له البخاري تعليقا في البيوع فقال وقال حسان بن أبي سنان ما رأيت شيئا أهون من الورع دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (مر بغرفة فقال متى بنيت هذه ثم أقبل على نفسه فقال تسألين عما لا يعنيك لأعاقبنك بصوم سنة فصامها ) ، رواه أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الجبار بن النضر السلمي قال مر حسان بغرفة فقال مذ كم بنيت ثم رجع إلى نفسه فقال وما عليك مذ كم بنيت تسألين عما لا يعنيك فعاقبها بصوم سنة وروي أيضا من طريق أبي حكيم أن حسانا خرج يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته كم من امرأة حسنة قد نظرت إليها اليوم فلما أكثرت قال ويحك ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت من عندك حتى رجعت إليك .

(وقال مالك بن ضيغم ) الجلاب البصري (جاء رياح القيسي ) هو أبو المهاصر رياح بن عمر وروى عن حسان بن أبي سنان وأيوب السختياني وصالح المري ومالك بن دينار وغيرهم وعنه أحمد بن يونس وعبد الله بن عمر ترجمه أبو نعيم في الحلية (يسأل عن أبي ) وهو ضيغم الجلاب له ذكر في الشعب للبيهقي في باب المحبة (بعد العصر فقلنا إنه نائم فقال نوم هذه الساعة هذا وقت نوم ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولا وقلنا ألا نوقظه لك فجاء الرسول وقال هو أشغل من أن يفهم عني شيئا أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاقب نفسه ويقول أقلت وقت نوم هذه الساعة أفكان هذا عليك ينام الرجل متى شاء وما يدريك أن هذا ليس وقت نوم تتكلمين بما لا تعلمين أما إن لله علي عهد ألا أنقضه أبدا لا أوسدك الأرض لنوم حولا إلا لمرض حائل أو لعقل زائل سوأة لك أما تستحيين كم توبخين وعن غيك لا تنتهين قال وجعل يبكي وهو لا يشعر بمكاني فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته ) ، رواه أبو نعيم في الحلية فقال حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا أبو يعلى الموصلي حدثنا محمد بن الحسين البرجلاني حدثنا مالك بن ضيغم قال جاءنا رياح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر فقلنا هو نائم فقال أنوم هذه الساعة هذا وقت نوم ثم ولى فأتبعناه فقلنا الحقه فقل نوقظه لك قال فجاءنا بعد المغرب فقلنا أبلغته قال هو كان أشغل من أن يفهم عني أدركته وهو [ ص: 117 ] يدخل المقابر وهو يوبخ نفسه ويقول أقلت أي نوم هذا لينم الرجل متى شاء تسألين عما لا يعنيك أما إن لله عز وجل علي عهد ألا أنقضه فيما بيني وبينه أبدا لا أوسدك لنوم حولا قال فلما سمعت هذا منه تركته وانصرفت (ويحكى أن ) أبا رقية (تميم ) بن أوس بن خارجة (الداري ) رضي الله عنه كان بالمدينة ثم انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان ونزل بيت المقدس ومات بالشام روى له البخاري تعليقا والجماعة (نام ليلة لم يقم يتهجد فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع ) .

رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس ورواه البيهقي في الشعب من طريق المنكدر عن أبيه أن تميما الداري نام ليلة لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع ورواه ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين حدثني يونس بن يحيى الأموي عن المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه أن تميما الداري نام ليلة لم يتهجد فيها حتى أصبح فقام سنة فلم ينم فيها عقوبة للذي صنع وفي خبر ابن حيوة من طريق ابن سيرين كان تميم يقرأ القرآن في ركعة وفي طبقات ابن سعد عن أبي قلابة كان تميم يختم القرآن في سبع ليال وقد تقدم (وعن طلحة ) اختلف فيه فقيل هو الصحابي أحد العشرة وقيل هو طلحة بن مصرف كما سيأتي في بيان الاختلاف فيه عقيب الحديث (قال انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء ) أي : الرمل الحار (فكان يقول لنفسه ذوقي نار جهنم أشد حرا أجيفة بالليل بطالة بالنهار فبينما هو كذلك إذا بصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال غلبتني نفسي ) أي : فقهرتها بهذا العمل وكأنه يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم (فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكن لك بد من الذي صنعت أما لقد فتحت لك أبواب السماء ولقد باهى الله بك الملائكة ثم قال لأصحابه تزودوا من أخيكم فجعل الرجل يقول له يا فلان ادع لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم عمهم فقال اللهم اجعل التقوى زادهم واجمع على الهدى أمرهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم سدده فقال الرجل اللهم اجعل مآبهم الجنة ) قال العراقي رواه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس من رواية ليث بن أبي سليم عنه وهذا منقطع أو مرسل ولا أدري من طلحة هذا إلا أن يكون طلحة بن مصرف وإلا فهو مجهول وقد أخرجه الطبراني من حديث بريدة متصلا نحوه قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مسير له إذ أتى على رجل يتقلب في الرمضاء ظهرا لبطن ويقول نوم بالليل وباطل بالنهار وترجين الجنة الحديث . اهـ . قلت وقوله وهذا منقطع أو مرسل يعني به إن كان طلحة صحابيا فليث لم يدركه فهو منقطع بينهما وإن كان هو طلحة بن مصرف فروايته عن الصحابة وعن كبار التابعين فهو مرسل ، وقد روى أبو داود في سننه حديثا عن طلحة عن أبيه عن جده فقيل هو طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي وقيل وإلا فهو مجهول وذكر الذهبي أن مصرف بن عمرو عن أبيه مجهول وعمرو بن كعب وقيل كعب بن عمرو صحابي مختلف فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية