إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل الثالث :

أن فعل العبد وإن كان كسبا للعبد فلا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه .

فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته .

ومنه الشر والخير والنفع والضر والإسلام والكفر ، والعرفان والنكر ، والفوز والخسران ، والغواية والرشد ، والطاعة والعصيان ، والشرك والإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يضل من يشاء ويهدي من يشاء لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .


(الأصل الثالث: أن فعل العبد وإن كان كسبا للعبد) باعتبار نسبته إليه (فلا يخرج عن كونه مرادا لله سبحانه) ، اتفق أهل السنة والجماعة على أن صانع العالم جل وعلا مريد لجميع الكائنات من خير وشر وإيمان وكفر ضرورة أنه جل وعلا فاعل للكل، فيكون مريدا للكل ضرورة أنه فاعل بالاختيار وأيضا فهو عالم بما لا يقع، فلا يريده; لأن الإرادة صفة توجب تخصيص الحادث بحالة حالة حدوثه عند تعلق القدرة، فما علم أنه لا يقع محال أن يقع، وإن كانت إحالته بالغير، وكل ما هو محال أن يقع ولو بالغير لا تتعلق به إرادته، إذ لو تعلقت إرادته به على ذلك التقدير لكان متمنيا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد زاد المصنف لذلك إيضاحا، فقال: (فلا يجري في الملك) أي: العالم السفلي (والملكوت) أي: العالم العلوي (طرفة عين ولا فلتة خاطر ولا لفتة ناظر) وبين الفلتة واللفتة جناس القلب (إلا بقضاء الله وقدره) والقضاء عند الأشاعرة يرجع إلى الإرادة، والقدر إلى الخلق، كما في شرح المواقف، وعند الماتريدية هما غير الإرادة، فالقضاء بمعنى الخلق، والقدر بمعنى التقدير، خلافا للأشاعرة، وغير العلم، خلافا للفلاسفة، كما سيأتي (وبإرادته ومشيئته) عطف تفسير للإرادة، فإرادته تعالى متعلقة بكل كائن، غير متعلقة بما ليس بكائن .

ثم بين تلك الحوادث التي تقع مرادة لله تعالى، فقال: (ومنه) تعالى (الشر والخير) ، هكذا في النسخ، بتقديم الشر على الخير، وفي بعضها بتقديم الخير، وهو الأوفق لما بعده من الفقر، (والنفع والضر) والحلو والمر (والإسلام والكفر، والعرفان والنكر، والفوز والخسر، والغواية والرشد، والطاعة والعصيان، والشرك والإيمان) وكل مما ذكر ضد لصاحبه (لا راد لقضائه) الذي قضاه وأراده (ولا معقب لحكمه) الذي أمضاه ودبره، (يضل من يشاء) أن يضل; لاستحبابه الضلال، وصرف اختياره إليه (ويهدي من يشاء) أي: يهديه لصرف اختياره إلى الهداية، وتسمية بعض الكائنات شرا بالنسبة إلى تعلقه وضرره لنا، لا بالنسبة إلى صدوره عنه; فخلق الشر ليس قبيحا; إذ لا قبيح منه تعالى ( لا يسأل عما يفعل ) في خلقه ( وهم يسألون ) عن أعمالهم، مقهورون تحت قبضة قدرته، هذا مذهب أهل الحق .

وذهبت المعتزلة إلى أن الأمر أنف، وقضوا بأن للخير فاعلا، وللشر فاعلا، وقد قال ابن عمر: "إنهم مجوس هذه الأمة" لذلك، وقد صاروا إلى أن كل مطلوب فعله من واجب أو مندوب فهو مراد الله تعالى، وقع أو لم يقع، وكل منهي عنه نهي تحريم أو تنزيه فهو مكروه، وما ليس كذلك من أفعال العباد لا يوصف بأنه مراد لله تعالى ولا مكروه، وقد تعلقوا في تمسكهم بقوله تعالى: وما الله يريد ظلما للعباد ، وما الله يريد ظلما للعالمين ، قالوا: إرادته ظلمهم لأنفسهم ثم عقابهم عليه ظلم، فهو منزه عنه سبحانه، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: إن الله لا يأمر بالفحشاء ، وقوله تعالى: ولا يرضى لعباده الكفر ، وقوله تعالى: والله لا يحب الفساد ، قالوا: والفساد كائن، والمحبة تلازم الإرادة، بل ليست غيرها; فالفساد ليس بمراد. وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، دل على أنه أراد من الكل العبادة والطاعة، لا المعصية، وهذا بناء منهم على أن الأمر والنهي يرجعان إلى الإرادة وعدم مغايرة أحدهما للآخر .

وقالوا: إرادة القبيح قبيحة، والأمر بغير المراد والمرضي والمحبوب سفه، وهو محال على الله تعالى، وسيأتي الجواب عن كل ذلك، ولنا في الاستدلال على أن إرادته تعالى متعلقة بكل كائن غير متعلقة بما ليس بكائن من جهة النقل ومن جهة العقل .

التالي السابق


الخدمات العلمية