إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الآيات كما قال الله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وكما قال تعالى : ومن آياته من أول القرآن إلى آخره ، فلنذكر كيفية الفكر في بعض الآيات .

فمن آياته الإنسان المخلوق من النطفة ، وأقرب شيء إليك نفسك وفيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره ، وأنت غافل عنه .

فيا من ، هو غافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع في معرفة غيرك وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال : قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره وقال تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون .

وقال تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى وقال تعالى : ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم وقال أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما ، فقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة الآية .

فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليسمع لفظه ويترك التفكر في معناه ، فانظر الآن إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت ، كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى ، وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع ، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم .

ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا وكبر وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ، ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ، ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ ، ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل ، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضى فيه الأعمار .

فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ، ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة ، فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق .


(وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الآيات كما قال تعالى: إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) أي: لدلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم، ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية أن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه متعرضة لجملة أنواعه، فإنه أما أن يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها .

(وكما قال تعالى: ومن آياته) أني خلقتكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، (ومن آياته) خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ومن آياته منامكم بالليل والنهار (من أول القرآن إلى آخره، فلنذكر كيفية الفكر في بعض الآيات) المذكورة (فمن آياته الإنسان المخلوق من النطفة، وأقرب شيء إليك) أيها المتفكر (نفسك) أي: ذاتك (وفيك من العجائب الدالة على عظمة الله) تعالى (ما تنقضي الأعمار) الطويلة (في نسخه) أي: كتابته (في الوقوف على عشر عشيرة، وأنت غافل عنه، فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل به كيف تطمع في معرفة غيرك وقد أمرك الله بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال:) ، وفي الأرض آيات للموقنين (وفي أنفسكم) آيات إذ ما في العالم شيء إلا وفي الإنسان له نظير يدل دلالته .

(أفلا تبصرون) تنظرون نظر من يعتبر (وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال: قتل الإنسان ما أكفره ) أي: ما أكثره كفرا بالله تعالى وهو دعاء عليه بأشنع الدعوات، وتعجيب من إفراطه في الكفران وهو مع قصره يدل على سخط عظيم وذم بليغ ( من أي شيء خلقه ) بيان لما أنعم عليه خصوصا من بعد حدوثه، والاستفهام للتحقير، ولذلك أجاب عنه بقوله ( من نطفة خلقه فقدره ) أي: هيأه لما يصلح له [ ص: 185 ] من الأعصاب والأشكال أو فقدره أطوارا إلى أن تم خلقه .

( ثم السبيل يسره ) أي: سهل مخرجه من بطن أمه بأن فتح فوهة الرحم وألهمه أن يتنكس ( ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ) من قبره (وقال تعالى: ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ) في الأرض .

(وقال تعالى: ألم يك نطفة من مني يمنى ) أي: يصب في الأرحام (ثم كان علقة) حمراء (فخلق فسوى) أي: عدله (وقال تعالى: ألم نخلقكم من ماء مهين ) أي: نطفة قذرة ( فجعلناه في قرار مكين ) هو الرحم ( إلى قدر معلوم ) أي: مقدار معين للولادة .

(وقال) تعالى: ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين ) ، فيه تقبيح بليغ لإنكارهم الحشر حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة الجحود لقدرته على ما هو أهون مما عمله في بداية خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس الشيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب .

(وقال) تعالى: ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ) أي: أخلاط جمع مشيج من مشجت الشيء إذا خلطته، وصف النطفة بها لأن المراد بها مجموع مني الرجل والمرأة، وكل منهما مختلفة الأجزاء في الرقة والقوام والخواص، ولذلك يصير كل جزء منهما مادة عضو، وقيل: مفرد كأشعار وأكباش، وقيل: ألوان، فأما ماء الرجل فأبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اختلطا أخضرا أو أطوارا فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة (ثم ذكر) تعالى (كيف جعل النطفة علقة) حمراء (والعلقة مضغة) لحم (والمضغة عظاما، فقال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) أي: من الصفو الذي يسل من الأرض ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ، وهو الرحم ( ثم خلقنا النطفة علقة الآية) ، والعلقة محركة القطعة من الدم الغليظة، وقيل: من الدم الجامد، والمضغة بالضم قطعة لحم .

ومنه قوله تعالى فخلقنا العلقة مضغة (فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليسمع لفظه ويترك التفكر في معناه، فانظر الآن إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة من الزمان ليضربها الهواء فسدت وأنتنت، كيف أخرجها أرب الأرباب من الصلب والترائب) أي: من صلب الرجل وترائب المرأة (وكيف جمع بين الذكر والأنثى، وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم) كما يشير إليه قوله تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة (وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم، ثم كيف خلق المولود من) تلك (النطفة) ، وهو قول أرسطاليس فإنه يقول: مبدأ قوة الصورة في مني الذكر ومبدأ انعقاد القوة المنفعلة في مني المرأة، ورأى جالينوس أن لكل واحد من المنيين قوة عاقدة وقابلة للعقد، ولكن لا يتم فعلها في مني الأنثى إلا بمني الذكر (وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وكبر) اعلم أن الدم الذي ينفصل في الحيض عن المرأة يصير أكثره غذاء في وقت الحمل منه ما يستحيل إلى مشابهة جوهر المني والأعضاء الكائنة منه، فيكون غذاء منميا لها، ومنها ما لا يصير غذاء لذلك، ولكن يصلح لأن ينعقد في حشوها فيكون لحما آخر أو سمنيا أو شحما ويملأ الأمكنة بين الأعضاء الأول، ومنه ما لا يصلح لأحد الأمرين فيبقى إلى وقت النفاس وتدفعه الطبيعة فضلا، وإذا ولد الجنين فإن الدم الذي يولده كبده يسد مسد دم الطمث الذي كان غذاء له، ويتولد عنه ما كان يتولد عن ذلك الدم .

(وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متشابهة متساوية إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم، ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق والأعضاء الظاهرة فدور الرأس وشق) فيه (السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ، ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع [ ص: 186 ] بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص) ، وإنما سماها باطنة لكونها لا ترى بظاهر العين .

(ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار) .

اعلم أن كلا من العينين مركب من سبع طبقات وثلاث رطوبات ومن العصب والعضل والعروق، وكيفية تركيبها أن العصبة المجوفة التي هي أول العصب الخارج من الدماغ يخرج من القحف إلى قعر العين وعليهما غشاءان هما غشاء الدماغ، فإذا برزت من العين وصارت في جونة عظم العين فارقها الغشاء الغليظ وصار غشاء ولباسا على عظم العين، ويسمى هذا الغشاء الطبقة الصلبية، ثم يفارقها الغشاء الرقيق فيصير غشاء ولباسا بعد الصلبية، ويسمى الطبقة المشيمية لشبهها بالمشيمة لأنها ذات عروق كثيرة، ثم تصير هذه العصبية نفسها إلى المجوفة عريضة ويصير منها غشاء بعد الأولين ويسمى الطبقة الشبكية، ثم يتكون في وسط هذا الغشاء جسم رطب لين في لون الزجاج الذائب وقوامه، ويسمى الرطوبة الزجاجية، ويتكون في وسط هذا الجسم جسم آخر مستدير إلا أن في جانبه الخارجي أدنى تفرطح لتظهر فيه أشباح المرئيات وفي جانبه الداخل نتوء ليتصل بالعصبة المجوفة كما ينبغي، ويسمى الرطوبة الجليدية لشبهها بالجليد في صفائه وجلوده ويسمى البردية أيضا لشبهها بالبردة في شكلها وصفائها وشفيفها، ويحفظ الزجاجية من الجليدية بمقدار النصف، ويعلو النصف الآخر جسم شبيه بنسج العنكبوت شديد الصقال والصفاء يسمى الطبقة العنكبوتية، ثم يعلو هذه الطبقة جسم سائل في لون البيض وقوامه يسمى الرطوبة البيضية، ويعلو البيضية جسم رقيق مخمل الداخل أملس الخارج، ويختلف لونه في الأبدان، فربما كان شديد السواد، وربما كان دون ذلك في وسطه بحيث يحاذي الجليدية ثقب يتسع ويضيق في حال دون حال بمقدار حاجة الجليدية إلى الضوء، فيضيق عند الضوء الشديد ويتسع في الظلمة، ويسمى هذا الثقب الحدقة، وهذا الغشاء الطبقة العينية في خمل باطنها وملاسة ظاهرها، والثقب الذي في وسطها ويعلو هذه الطبقة جسم كثيف صلب صاف شفاف يشبه صحيفة رقيقة من قرن أبيض، ويسمى الطبقة القرنية غير أنها تتلون بلون الطبقة التي تحتها المسماة بالعينية ولونها مختلف في الناس، ففي بعض تكون زرقاء وفي بعض تكون شهلاء وفي بعض تكون سوداء ويعلو هذه الطبقة ويغشاها لا كلها بل إلى موضع سواد العين جسم أبيض اللون يسمى الطبقة الملتحمة وهي التي تلي الهواء وهو بياض العين ونباته من الجلد الذي على القحف من خارج، وجوهره من لحم أبيض دسم، وقد امتزج بعضلة العين وأحكم على القرنية، فلهذا تسمى بالملتحمة، هكذا رتب بعضهم هذه الطبقات والرطوبات أعني جعل الأول الطبقة الصلبية ثم الطبقة المشيمية ثم الطبقة الشبكية، ثم الرطوبة الجليدية، ثم الطبقة العنكبوتية ثم الرطوبة البيضية، ثم باقي الطبقات العنبية والقرنية والملتحمة، وبعضهم جعل الرطوبة البيضية تالية للرطوبة الجليدية بين الزجاجية والبيضية، وجعل الطبقات الأربعة أعني العنكبوتية والعنبية والقرنية والملتحمة تالية للرطوبات الثلاث المتوالية وأشرف أجزاء العين إنما هو الرطوبة الجليدية وسائر الطبقات والرطوبات لأجل مصلحته، فالزجاجية والطبقات الثلاث قد أحاطت بنصف الجليدية من جانب الرطوبة البيضية، والطبقات الأربع المتصلة بها محيطة بنصفها الآخر من جانب آخر، وهي موضوعة في الوسط صيانة لها وحرزا .

(فلو ذهبنا نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات) الدالة على كمال قدرته (لانقضت فيه الأعمار) ، ولم تف عشر عشيرة (فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية) اعلم أن الأعضاء أجسام كثيفة متكونة من الرطوبات المحمودة وهي الأخلاط والرطوبات الثانية التي ليست من الفضول، والمني إما من الأخلاط عند من يجعله دما نضيجا وإما من الرطوبات الثانية عند من يجعله نوعا آخر، ومنها عضو مفرد وهو الذي أي جزء مخسوس [ ص: 187 ] أخذت منه كان مشتركا كالكل في الطبع والمزاج، ولذلك يسمى متشابه الأجزاء وهو العظم، وقد خلق صلبا (فانظر كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له) ، ودعامة للحركات (ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق) ، ومنه ما هو مربع، ومنه ما هو على شكل زاوية، ومنه ما هو على نصف دائرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية