إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان فضل ذكر الموت كيفما كان .


* (بيان فضيلة ذكر الموت كيفما كان ) *

ولنقدم أولا ما يتعلق ببدو الموت ثم بما ورد في النهي عن تمنيه ثم بما ورد في فضل طول الحياة في طاعة الله تعالى ثم نتبعه بذكر فضيلته فأقول: روى أبو نعيم في الحلية عن مجاهد في قوله تعالى: ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون قال ما بين الموت والبعث، وقال أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في المصنف معا حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن حبيب بن الشهيد عن الحسن قال: "لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: إن الأرض لا تسعهم، فقال: إني جاعل موتا، قالوا: إذا لا يهنأهم العيش، قال: إني جاعل أملا". وفي الحلية عن مجاهد قال: "لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال له ربه: ابن للخراب ولد للموت". وروى البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة: "إن ملكا ينادي: يا بني آدم لدوا للموت، وابنوا للخراب". ومن حديث الزبير: "ما من صباح يصبح على العباد إلا وصارخ يصرخ: لدوا للموت، واجمعوا للفناء، وابنوا للخراب". وروى أحمد في الزهد من طريق عبد الواحد بن زيد قال: "قال عيسى بن مريم عليه السلام: يا بني آدم لدوا للموت، وابنوا للخراب، تفنى نفوسكم، وتبلى دياركم". وروى الثعلبي في التفسير عن كعب قال: "صاح ورشان عند سليمان عليه السلام فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: يقول لدوا للموت وابنوا للخراب".

* (فصل ) *

فيما ورد في النهي عن تمني الموت والدعاء به لضر ينزل في المال والجسد

روى الباوردي، والطبراني، والحاكم، من حديث الحكم بن عمرو الغفاري، وأحمد من حديث عبس الغفاري، وأحمد أيضا، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، من حديث خباب: "لا يتمنين أحدكم الموت". ورواه الشيخان من حديث أنس بزيادة: "لضر نزل به، فإن كان ولا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة [ ص: 224 ] خيرا لي". ورواه بهذه الزيادة أيضا الطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي، وقال حسن صحيح، والنسائي، وابن ماجه، وأبو عوانة، وابن حبان، ورواه ابن أبي شيبة، وابن حبان، بزيادة بعد قوله "نزل به في الدنيا": "ولكن ليقل" وساقاه، وفيه في آخره بعد قوله "خيرا لي" "وأفضل". ورواه الشيخان من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدع به قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا". ورواه ابن عساكر بلفظ: "لا يتمنين أحدكم الموت حتى يثق بعمله". ورواه أحمد، والبخاري، والنسائي، بلفظ: "إما محسنا فلعله يزداد، وإما مسيئا فلعله يستعتب". ورواه النسائي وحده بلفظ: "إما محسنا فلعله أن يعيش يزداد خيرا، وهو خير له، وإما مسيئا فلعله أن يستعتب". ورواه الخطيب من حديث ابن عباس بلفظ: "فإنه لا يدري ما قدم لنفسه".

وروى أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والحاكم، والبيهقي في "الشعب"، من حديث جابر: "لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد حتى يرزقه الله الإنابة". وروى الشيخان من حديث أنس قال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نتمنى الموت لتمنيناه". وروى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: "دخلنا على خباب نعوده، وقد اكتوى سبع كيات، فقال: لولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعونا به". وروى المروزي عن القاسم مولى معاوية أن سعد بن أبي وقاص تمنى الموت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تتمن الموت، فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك، وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها". وروى أبو يعلى، والطبراني، والحاكم، عن أم الفضل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليهم وعمه العباس يشتكي فتمنى الموت، فقال له: "يا عم لا تتمن الموت، فإن كنت محسنا فإن تؤخر تزدد إحسانا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئا فإن تؤخر تستعتب من إساءتك خير لك فلا تتمن الموت".

* (فصل ) *

في فضل طول الحياة في طاعة الله تعالى

روى أحمد، والترمذي، وصححه، والحاكم، من حديث أبي بكرة، أن رجلا قال: "يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟ قال: من طال عمره، وساء عمله". وروى الحاكم من حديث جابر: "خياركم أطولكم أعمارا، وأحسنكم أعمالا". ورواه أحمد من حديث أبي هريرة، وروى الطبراني من حديث عبادة بن الصامت: "ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أطولكم أعمارا في الإسلام إذا سددوا". وروى أيضا من حديث عوف بن مالك: "كلما طال عمر المسلم كان له خير".

وروى أحمد من حديث أبي هريرة قال: كان رجلان من بني حي من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستشهد أحدهما، وأخر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيد الله: فرأيت الجنة، فرأيت المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد، فعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة، وكذا، وكذا ركعة صلاة سنة". وروى أحمد، والبزار، من حديث طلحة: "ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام، لتسبيحه، وتكبيره، وتهليله". وروى صاحب الحلية عن سعيد بن جبير قال: "إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفرائض، والصلاة، وما يرزقه الله من ذكره". وروى ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: "بلغني أن المؤمن إذا مات تمنى الرجعة إلى الدنيا ليس ذلك إلا ليكبر تكبيرة أو يهلل تهليلة أو يسبح تسبيحة" .

* (فصل ) *

في جواز تمني الموت والدعاء به لخوف الفتنة في الدين روى مالك من حديث أبي هريرة: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني كنت مكانه". وروى مالك والبزار عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون". وروى مالك عن عمر أنه قال: "اللهم قد ضعفت قوتي، وكبر سني، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مقصر"،فما جاوز ذلك إلا الشهر حتى قبض. وروى أحمد، والطبراني في الكبير، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، عن عليم الكندي قال: كنت مع عبس الغفاري على سطح، فرأى قوما [ ص: 225 ] يتحملون من الطاعون، فقال: يا طاعون خذني إليك، قالها ثلاثا، فقال عليم: لم تقول هذا؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتمنى أحدكم الموت فإنه عند ذلك انقطاع عمله، ولا يرد فيستعتب؟ فقال عبس: أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بادروا بالموت ستة: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل يغنيهم بالقرآن، وإن كان أقلهم فقها". قال في الصحاح تحمل بمعنى ارتحل .

وروى الحاكم عن الحسن قال: قال الحكم بن عمر: ويا طاعون خذني إليك، فقيل له: لم تقول هذا وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يتمنين أحدكم الموت؟ قال: قد سمعت ما سمعتم، ولكني أبادر ستا: بيع الحكم، وكثرة الشرط، وإمارة الصبيان، وسفك الدماء، وقطيعة الرحم، ونشوا يكون في آخر الزمان يتخذون القرآن مزامير. وروى ابن سعد في الطبقات عن حبيب بن أبي فضالة أن أبا هريرة ذكر الموت فكأنه تمناه، فقال بعض أصحابه: وكيف تتمنى الموت بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لأحد أن يتمنى الموت لا بر ولا فاجر، إما بر فيزداد برا، وإما فاجر فيستعتب؟ فقال: وكيف لا أتمنى الموت، وإنما أخاف أن تدركني ستة: التهاون بالذنب، وبيع الحكم، وتقاطع الأرحام، وكثرة الشرط، ونشو يتخذون القرآن مزامير. وروى الطبراني من حديث عمرو بن عبسة: "لا يتمنى أحدكم الموت إلا أن يثق بعمله، فإن رأيتم ست خصال فتمنوا الموت، وإن كانت نفسك في يدك فأرسلها، إضاعة الدم، وإمارة الصبيان، وكثرة الشرط، وإمارة السفهاء، وبيع الحكم، ونشوا يتخذون القرآن مزامير".

وروى صاحب الحلية من حديث ابن مسعود: "لا يخرج الدجال حتى لا يكون شيء أحب إلى المؤمن من خروج نفسه". وروى ابن أبي الدنيا عن سفيان قال: "يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى قراء العلم ذلك الزمان من الذهب الأحمر". وعن أبي هريرة قال: "يوشك أن يكون الموت أحب إلى المؤمن من الماء البارد يصب عليه العسل فيشربه". وعن أبي ذر قال: "ليأتين على الناس زمان تمر الجنازة بهم فيقول الرجل ليت أني مكانها". وروى ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: مرض أبو هريرة فأتيت أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: اللهم لا ترجعها، وقال: يوشك يا أبا مسلم أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر، ويوشك يا أبا سلمة إن بقيت إلى قريب يأتي الرجل القبر فيقول: يا ليتني مكانك. وروى المروزي في الجنائز عن مرة الهمداني قال: تمني عبد الله لنفسه ولأهله الموت، فقيل له: تمنيت لأهلك فلم تتمناه لنفسك؟ فقال: لو أني أعلم أنكم تسلمون عن حالكم هذه لتمنيت أن أعيش فيكم عشرين سنة.

وروي عن أبي عثمان قال: بينما ابن مسعود ذات يوم في صفة له، وتحته فلانة وفلانة امرأتان ذواتا منصب وجمال، وله منهما ولد كأحسن الولد، إذ شقشق على رأسه عصفور ثم قذف ذا بطنه فنكته بيده ثم قال: لأن يموت آل عبد الله ثم يتبعهم أحب إلي من أن يموت هذا العصفور. ورواه صاحب الحلية كذلك. وروى المروزي عن قيس قال: كان صبيان لعبد الله يشتدون بين يديه فقال: ترون هؤلاء لهم أهون علي موتا من عدتهم من الجعلان. وروى صاحب الحلية من طريق الحسن حدثنا أبو الأحوص قال: دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون ثلاثة كأمثال الدنانير، فجعلنا ننظر إليهم، ففطن بنا، فقال: كأنكم تغبطونني بهم، قلنا: وهل يغبط الرجل إلا بمثل هؤلاء، فرفع رأسه إلى سقف بيت له قصير قد عشش فيه خطاف، فقال: لأن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم أحب إلي من أن يقع بيض هذا الخطاف فينكسر. وروى المروزي عن الحسن قال: كان في مصركم هذا رجل عابد، فخرج من المسجد، فلما وضع رجله في الركاب أتاه ملك الموت فقال: مرحبا لقد كنت إليك بالأشواق، فقبض روحه. وروى ابن سعد والمروزي عن خالد بن معدان قال: ما من دابة في بر، ولا بحر، يسرني أن تفديني من الموت، ولو كان الموت علما يستبق الناس إليه ما سبقني إليه أحد إلا رجل يغلبني بفضل قوته. وروى صاحب الحلية عنه قال: والله لو كان الموت في مكان موضوعا لكنت أول من سبق إليه. وروى أيضا عن عبد ربه بن صالح أنه دخل على مكحول في مرض موته فقال له: عافاك الله تعالى، فقال: كلا، اللحوق بمن يرجى عفوه خير مع البقاء مع من لا يؤمن شره [ ص: 226 ] شياطين الإنس وإبليس وجنوده. وروى ابن عساكر عن ابن مسهر قال: سمعت رجلا قال لسعيد بن عبد العزيز التنوخي: أطال الله تعالى بقاءك، فغضب وقال: بل عجل الله بي إلى رحمته.

وروى صاحب الحلية عن عبيدة بن المهاجر قال: لو قيل من مس هذا العود مات، لقمت حتى أمسه. وروى أيضا عن عبد الرحمن الصنابحي قال: الدنيا تدعو إلى فتنة، والشيطان يدعو إلى خطيئة، ولقاء الله خير من المقام معهما. وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عن عمرو بن ميمون أنه كان لا يتمنى الموت، قال: إني أصلي كل يوم كذا وكذا صلاة، حتى أرسل إليه يزيد بن مسلم فتعنته ولقي منه، فكان يقول: اللهم ألحقني بالأخيار، ولا تخلفني مع الأشرار. وروى أيضا عن أم الدرداء قالت: كان أبو الدرداء إذا مات الرجل على الحال الصالحة قال: هنيئا لك، يا ليتني كنت مكانك، فقالت أم الدرداء له في ذلك، فقال: هل تعلمين يا حمق أن الرجل يصبح مؤمنا، ويمسى منافقا، يسلب إيمانه وهو لا يشعر، فأنا لهذا الميت أغبط مني بالبقاء في الصلاة، والصيام. وروى ابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن أبي الدنيا عن أبي جحيفة قال: ما من نفس تسرني أن تفديني من الموت، ولا نفس ذبابة. وروى ابن أبي الدنيا، والخطيب، وابن عساكر، عن أبي بكرة قال: والله ما من نفس تخرج أحب إلي من نفسي هذه، ولا نفس هذا الذباب الطائر، ففزع القوم، فقالوا: لم؟ فقال: إني أخشى أن أدرك زمانا لا أستطيع أن آمر بمعروف، ولا أنهى عن منكر، وما خير يومئذ. وروى ابن أبي شيبة، وابن سعد البيهقي في "الشعب"، عن أبي هريرة أنه مر به رجل فقال: أين تريد؟ قال: السوق، قال: إن استطعت أن تشتري الموت قبل أن ترجع فافعل.

وروى ابن أبي الدنيا، والطبراني في الكبير، وابن عساكر، من طريق عروة بن رويم، عن العرباض بن سارية، وكان شيخا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يحب أن يقبض، فكان يدعو: اللهم كبرت سني، ووهن عظمي، فاقبضني إليك، فقال: فبينما أنا يوما في مسجد دمشق، وأنا أصلي، وأدعو أن أقبض، إذ أنا بفتى شاب من أجمل الرجال، وعليه دراج أخضر، فقال: ما هذا الذي تدعو به؟ قلت: وكيف أدعو يا ابن أخي؟ قال: قل اللهم حسن العمل، وبلغ الأجل، قلت: من أنت يرحمك الله، قال: أنا رتائيل الذي يسل الحزن من صدور المؤمنين، ثم التفت فلم أر أحدا.

التالي السابق


الخدمات العلمية