إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان السبب في طول الأمل وعلاجه .

اعلم أن طول الأمل له سببان : أحدهما الجهل ، والآخر حب الدنيا .

أما حب الدنيا فهو أنه إذا أنس بها ، وبشهواتها ، ولذاتها ، وعلائقها ، ثقل على قلبه مفارقتها ، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها ، وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة فيمني ، نفسه أبدا بما يوافق مراده ، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال ، يتوهمه ويقدره في نفسه ، ويقدر توابع البقاء ، وما يحتاج إليه من مال ، وأهل ، ودار ، وأصدقاء ، ودواب وسائر أسباب الدنيا ، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه فيلهو عن ذكر الموت فلا ، يقدر قربه فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت ، والحاجة إلى الاستعداد له ، سوف ووعد نفسه ، وقال : الأيام بين يديك إلى ، أن تكبر ثم تتوب ، وإذا كبر فيقول : إلى أن تصير شيخا فإذا صار شيخا قال : إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار ، وعمارة هذه الضيعة ، أو ترجع من هذه السفرة ، أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه ، وتدبير مسكن له أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك .

فلا يزال يسوف ، ويؤخر ، ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر . وهكذا على التدريج .

يؤخر يوما بعد يوم ويفضي ، به شغل إلى شغل ، بل إلى أشغال ، إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته . وأكثر أهل النار وصياحهم من سوف يقولون : واحزناه من سوف .

والمسوف المسكين لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا ; وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخا ، ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا ، والحافظ لها فراغ قط ، وهيهات فما يفرغ منها إلا من طرحها .

فما قضى أحد منها لبانته ، وما انتهى أرب إلا إلى أرب . وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا ، والأنس بها والغفلة عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : أحبب من أحببت فإنك مفارقه .

وأما الجهل فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب ; وليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من عشر رجال البلد ، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر ، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب .

وقد يستبعد الموت لصحته ، ويستبعد الموت فجأة ، ولا يدري أن ذلك غير بعيد ، وإن كان ذلك بعيدا فالمرض فجأة غير بعيد ، وكل مرض فإنما يقع فجأة ، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا . ولو تفكر هذا الغافل وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص من شباب وشيب ، وكهولة ، ومن صيف ، وشتاء ، وخريف ، وربيع من ، ليل ، ونهار ، لعظم استشعاره ; واشتغل بالاستعداد له . ولكن الجهل بهذه الأمور ، وحب الدنيا ، دعواه إلى طول الأمل ، وإلى الغفلة عن تقدير الموت القريب . فهو أبدا يظن أن الموت يكون بين يديه ، ولا يقدر نزوله به ، ووقوعه فيه ، وهو أبدا يظن أنه يشيع الجنائز ، ولا يقدر أن تشيع جنازته لأن هذا قد تكرر عليه وألفه ، وهو مشاهدة موت غيره ، فأما موت نفسه فلم يألفه ولم يتصور أن يألفه ، فإنه لم يقع ، وإذا وقع في دفعه أخرى بعد هذه ، فهو الأول ، وهو الآخر .

وسبيله أن يقيس نفسه بغيره ، ويعلم أنه لا بد وأن تحمل جنازته ويدفن في قبره ، ولعل اللبن الذي يغطى به لحده قد ضرب وفرغ منه وهو لا يدري فتسويفه جهل محض .

وإذا عرفت أن سببه الجهل ، وحب الدنيا ، فعلاجه دفع سببه .

أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي من القلب الحاضر ، وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة .

وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد ، وهو الداء العضال الذي أعيا الأولين ، والآخرين ، علاجه ولا علاج له إلا الإيمان باليوم الآخر ، وبما فيه من عظيم العقاب ، وجزيل الثواب ، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير . فإذا رأى حقارة الدنيا ، ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها وإن أعطي ملك الأرض من المشرق إلى المغرب ، وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير ، مكدر منغص فكيف يفرح بها أو يترسخ في القلب حبها مع الإيمان بالآخرة فنسأل الله تعالى أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده .

ولا علاج في تقدير الموت في القلب مثل النظر إلى من مات من الأقران ، والأشكال وأنهم كيف جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا .

أما من كان مستعدا فقد فاز فوزا عظيما ، وأما من كان مغرورا بطول الأمل فقد خسر خسرانا مبينا .

فلينظر . الإنسان كل ساعة في أطرافه وأعضائه وليتدبر أنها كيف تأكلها الديدان لا محالة ، وكيف تتفتت عظامها وليتفكر أن الدود يبدأ بحدقته اليمنى أولا أو اليسرى فما على بدنه شيء إلا وهو طعمة الدود ، وما له من نفسه إلا العلم والعمل الخالص لوجه الله تعالى .

وكذلك يتفكر فيما سنورده من عذاب القبر ، وسؤال منكر ونكير ، ومن الحشر ، والنشر ، وأهوال القيامة ، وقرع النداء يوم العرض الأكبر .

فأمثال هذه الأفكار هي التي تجدد ذكر الموت على قلبه ، وتدعوه إلى الاستعداد له .


* (الفصل الثاني في بيان السبب في طول الأمل وعلاجه ) *

(اعلم ) وفقك الله تعالى (أن طول الأمل له سببان: أحدهما الجهل، والآخر حب الدنيا. أما حب الدنيا فهو أنه إذا أنس بها، وبشهواتها، ولذاتها، وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه عن الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه ) لا محالة. (والإنسان مشغوف بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبدا بما يوافق مراده، وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا، يتوهمه ويقدره في نفسه، ويقدر توابع البقاء، وما يحتاج إليه من مال، وأهل، ودار، وأصدقاء، ودواب ) وملابس، وضياع، (وسائر أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفا على هذا الفكر موقوفا عليه ) وحبسا لديه (فيلهو عن ذكر الموت، ولا يقدر قربه ) .

(فإن خطر له في بعض الأحوال أمر الموت، والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك، فإلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر فيقول: إلى أن تصير شيخا ) فتتوب (فإذا صار شيخا قال: إلى أن تفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة، أو ترجع من هذه السفرة، أو تفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه، وتدبير مسكن له) وما يحتاج إليه في معيشته (أو تفرغ من قهر هذا العدو الذي يشمت بك ) فتتوب (فلا يزال يسوف، ويؤخر، ولا يخوض في شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال أخر. وهكذا على التدريج يؤخر يوما بعد يوم، ويقضي به شغل إلى شغل، بل إلى أشغال، إلى أن تخطفه المنية في وقت لا يحتسبه ) ولم يكن في باله (فتطول عند ذلك حسرته. وأكثر أهل النار صياحهم من سوف يقولون: واحزناه من سوف ) . وقد ورد ذلك في بعض الأخبار بنحوه، وتقدم للمصنف; وقال العراقي هناك: لم أجد له أصلا .

(والمسوف المسكين لا يدري أن الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غدا; وإنما يزداد بطول المدة قوة ورسوخا، ويظن أنه يتصور أن يكون للخائض في الدنيا، والحافظ لها ) والمنهمك في تحصيلها (فراغ قط، وهيهات فما يفرغ منها إلا من أطرحها ) وراجع نفسه عنها (فما قضى أحد منها لبانته، وما انتهى أرب إلا إلى أرب. وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا، والأنس بها ) ولذا ورد: حب الدنيا رأس كل خطيئة. وفي مفهومه أن بغضها رأس كل حسنة (والغفلة عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ) إن روح القدس نفث في روعي (أحبب من أحببت فإنك مفارقه ) وعش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به. قد تقدم غير مرة .

(وأما الجهل فهو أن الإنسان قد يعول على شبابه فيستبعد قرب الموت مع الشباب; وليس يتفكر المسكين أن مشايخ بلده لو عدوا لكانوا أقل من عشرة من رجال البلد، وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر، فإلى أن يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب. وقد يستبعد الموت لصحته، ويستبعد الموت فجأة، ولا يدري أن [ ص: 250 ] ذلك غير بعيد، وإن كان ذلك بعيدا فالمرض فجأة غير بعيد، وكل مرض فإنما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيدا. ولو تفكر هذا الغافل وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص من شباب، ومشيب، وكهولة، ومن صيف، وشتاء، وخريف، وربيع، ومن ليل، ونهار، لعظم استشعاره; واشتغل بالاستعداد له. ولكن الجهل بهذه الأمور، وحب الدنيا، دعواه ) أي طلباه (إلى طول الأمل، وإلى الغفلة من تقدير الموت القريب. فهو أبدا يظن أن الموت يكون بين يديه، ولا يقدر نزوله به، ووقوعه فيه، وهو أبدا يظن أنه يشيع الجنائز، ولا يقدر أن يشيع جنازته لأن هذا قد تكرر عليه وألفه، وهو مشاهدة موت غيره، فأما موت نفسه فلم يألفه، ولا يتصور أن يألفه، فإنه لا يقع، وإذا وقع لم يقع دفعة أخرى بعد هذه، فهو الأول، وهو الآخر، وسبيله أن يقيس نفسه بغيره، ويعلم أنه لا بد وأن تحمل جنازته ويدفن في قبره، ولعل اللبن الذي يغطى به لحده قد ضرب وفرغ منه ) والثوب الذي يكفن فيه قد نسج وخرج من عند القصار (وهو لا يدري ) فتسويفه جهل محض .

(وإذا عرفت أن سببه الجهل، وحب الدنيا، فعلاجه دفع سببه. أما الجهل فيدفع بالفكر الصافي من القلب الحاضر، وبسماع الحكمة البالغة من القلوب الطاهرة. وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد، وهو الداء العضال ) الصعب (الذي أعيا الأولين، والآخرين، علاجه ) لشدة تعلقه بالقلب (ولا علاج له إلا الإيمان باليوم الآخر، وبما فيه من عظيم العقاب، وجزيل الثواب، ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل من قلبه حب الدنيا ) إذ الدنيا والآخرة بمنزلة ضرتين، إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى (فإن حب الخطير هو الذي يمحو عن القلب حب الحقير. فإذا رأى حقارة الدنيا، ونفاسة الآخرة استنكف أن يلتفت إلى الدنيا كلها وإن أعطي ملك الأرض من المشرق إلى المغرب، وكيف وليس عنده من الدنيا إلا قدر يسير، ومع ذلك ) فإنه (مكدر منغص ) متعب (فكيف يفرح بها أو يترسخ في القلب حبها مع الإيمان بالآخرة ) إيمانا يقينيا (فنسأل الله تعالى أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين من عباده ) كما ورد ذلك في الخبر، وتقدم ذكره في كتاب ذم الدنيا .

(ولا علاج في تقدير الموت في القلب ) إلا أن يفرغ قلبه عن كل فكر سواه، ويجلس في خلوة، ويباشر ذكر الموت عميم قلبه، ولا أنفع في ذلك (مثل النظر إلى من مات من ) النظر، و (الأقران، والأشكال ) ، والأتراب، واحدا واحدا. (وأنهم كيف جاءهم الموت في وقت لم يحتسبوا ) ويتذكر مرضهم، وأملهم، وركونهم إلى الدنيا، والجاه، والمال، ثم يذكر مصارعهم، وتحسرهم على فوات العمر وتضييعه. (أما من كان مستعدا ) لمجيئه (فقد فاز فوزا عظيما، وأما من كان مغرورا بطول الأمل فقد خسر خسرانا مبينا. ولينظر الإنسان كل ساعة في أطرافه وأعضائه ) نظر عبرة (وليتدبر أنها كيف تأكلها الديدان لا محالة، وكيف تتفتت عظامها ) حتى تصير نخرة. (وليتفكر أن الدود يبدأ بحدقته اليمنى أولا أو اليسرى ) بعد أن تسيل على خده (فما على بدنه شيء إلا وهو طعمة الدود، وما له من نفسه إلا العلم والعمل الخالص لوجه الله تعالى ) .

(وكذلك يتفكر فيما سنورده من عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، ومن الحشر، والنشر، وأهوال القيامة، وقرع النداء يوم العرض [ ص: 251 ] الأكبر. فأمثال هذه الأفكار هي التي تجدد ذكر الموت على قلبه، وتدعوه إلى الاستعداد له ) وفيما ذكرناه من خطب أمير المؤمنين، ومن خطب عمر بن عبد العزيز، يقع للمتفكر، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية