إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومنها مشاهدة الملكين الحافظين ، قال وهيب بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يتراءى له ملكاه الكاتبان عمله ، فإن كان مطيعا قالا له : جزاك الله عنا خيرا ، فرب مجلس صدق أجلستنا ، وعمل صالح أحضرتنا . وإن كان فاجرا قالا له : لا جزاك الله عنا خيرا ، فرب مجلس سوء أجلستنا ، وعمل غير صالح أحضرتنا ، وكلام قبيح أسمعتنا ، فلا جزاك الله عنا خيرا .

فذلك شخوص بصر الميت إليهما ، ولا يرجع إلى الدنيا أبدا .

الداهية الثالثة مشاهدة العصاة مواضعهم من النار ، وخوفهم قبل المشاهدة ، فإنهم في حال السكرات قد تخاذلت قواهم ، واستسلمت للخروج أرواحهم ولن تخرج أرواحهم ما لم يسمعوا نغمة ملك الموت بأحد البشريين ، إما أبشر يا عدو الله بالنار أو أبشر يا ولي الله بالجنة .

ومن . هذا كان خوف أرباب الألباب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره ، وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار وقال صلى الله عليه وسلم .

: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالوا : كلنا نكره الموت ، قال : ليس ذاك بذاك ، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه
وروي أن حذيفة بن اليمان قال لابن مسعود وهو لما به من آخر الليل : قم فانظر أي ساعة هي ، فقام ابن مسعود ثم جاءه فقال : قد طلعت الحمراء فقال حذيفة أعوذ بالله من صباح إلى النار ودخل مروان على أبي هريرة فقال مروان : اللهم خفف عنه ، فقال أبو هريرة اللهم اشدد ، ثم بكى أبو هريرة وقال : والله ما أبكي حزنا على الدنيا ولا جزعا من فراقكم ولكن أنتظر إحدى البشريين من ربي بجنة أم بنار .

وروي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله إذا رضي عن عبد قال : يا ملك الموت اذهب إلى فلان فأتني بروحه لأريحه ، حسبي من عمله قد بلوته فوجدته حيث أحب ، فينزل ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ومعهم قضبان الريحان وأصول الزعفران ، كل واحد منهم يبشره ببشارة سوى بشارة صاحبه ، وتقوم الملائكة صفين لخروج روحه معهم الريحان ، فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثم صرخ ، قال : فيقول له جنوده ما لك : يا سيدنا ؟ فيقول : أما ترون ما أعطي هذا العبد من الكرامة ؟ أين كنتم من هذا ؟ قالوا قد : جهدنا به فكان معصوما .


(ومنها مشاهدة الملكين الحافظين، قال وهيب ) بن الورد المكي، العابد، الثقة، أبو عثمان، قيل اسمه عبد الوهاب، ووهيب لقبه، روى له مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي: (بلغنا أنه ما ميت يموت حتى يتراءى له ملكاه الكاتبان عمله، فإن كان مطيعا قالا له: جزاك الله عنا خيرا، فرب مجلس صدق أجلستنا، وعمل صالح أحضرتنا. وإن كان فاجرا قالا له: لا جزاك الله عنا خيرا، فرب مجلس سوء أجلستنا، وعمل غير صالح قد أحضرتنا، وكلام قبيح قد أسمعتنا، فلا جزاك الله عنا خيرا ) قال (فذلك شخوص بصر الميت إليهما، ولا يرجع إلى الدنيا أبدا ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت فقال: حدثنا عبد الكريم أبو يحيى حدثنا عبيد الله بن محمد بن يزيد بن خنيس حدثنا أبي عن وهيب بن الورد قال: بلغنا أنه ما من ميت يموت حتى يتراءى ملكاه اللذان كانا يحفظان عليه عمله في الدنيا، فإن كان صحبهما بطاعة قالا له: جزاك الله عنا من جليس خيرا، فرب مجلس صدق قد أجلستناه، وعمل صالح قد أحضرتناه، وكلام حسن قد أسمعتناه، فجزاك الله عنا من جليس خيرا. وإن كان صحبهما بغير ذلك مما ليس لله برضا قلبا عليه الثناء فقالا: لا جزاك الله عنا من جليس خيرا، فرب مجلس سوء قد أجلستناه، وعمل غير صالح قد أحضرتناه، وكلام قبيح قد أسمعتناه، فلا جزاك الله عنا من جليس خيرا. قال: فذاك شخوص بصر الميت إليهما، ولا يرجع إلى الدنيا أبدا. ورواه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه فقال: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد المؤذن حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبان حدثنا أبو بكر بن عبيد هو ابن أبي الدنيا فساقه .

(الداهية الثالثة مشاهدة العصاة مواضعهم من النار، وخوفهم قبل المشاهدة، فإنهم في حال السكرات قد تخاذلت قواهم، واستسلمت للخروج أرواحهم ) أي انقادت (ولن تخرج أرواحهم ما لم يسمعوا نغمة ملك [ ص: 266 ] الموت بإحدى البشريين، إما أبشر يا عبد الله بالنار أو أبشر يا ولي الله بالجنة. وعن هذا كان خوف أرباب الألباب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لن يخرج أحدكم من الدنيا حتى يعلم أين مصيره، وحتى يرى مقعده من الجنة أو النار ) . قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من رواية رجل لم يسم عن علي مرفوعا: "لا يخرج نفس ابن آدم من الدنيا حتى يعلم إلى أين مصيره إلى الجنة أم إلى النار". وفي رواية: "حرام على نفس أن تخرج من الدنيا حتى تعلم من أهل الجنة هي أم من أهل النار". وفي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت ما يشهد لذلك أن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته الحديث اهـ. قلت: وروى ابن مردويه وابن منده بسند ضعيف من حديث ابن عباس: "ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار" الحديث .

(وقال صلى الله عليه وسلم: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقالوا: كلنا نكره الموت، قال: ليس ذاك بذاك، إن المؤمن إذا فرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ) . قال العراقي: متفق عليه من حديث عبادة بن الصامت اهـ. قلت: المتفق عليه إنما هو إلى قوله: كره الله لقاءه، هكذا روياه من رواية أنس عن عبادة بن الصامت. ورواه كذلك الطيالسي، وأحمد، والترمذي، والنسائي، وابن حبان. وقد روي هذا القدر أيضا من حديث عائشة رواه أحمد، والشيخان، والترمذي، والنسائي. ومن حديث أبي موسى رواه الشيخان، ومن حديث أبي هريرة رواه مسلم، والنسائي، ومن حديث معاوية رواه النسائي، والطبراني. وأما تلك الزيادة فرويت عن عدة من الصحابة فمن ذلك ما رواه أحمد، والنسائي، من حديث أنس بلفظ: "قالوا يا رسول الله كلنا نكره الموت، قال: ليس ذلك كراهية الموت، ولكن المؤمن إذا حضر جاءه البشير من الله بما هو صائر إليه، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله فأحب الله لقاءه، وإن الفاجر إذا حضر جاءه ما هو صائر إليه من الشر فكره لقاء الله فكره الله لقاءه".

وروى عبد بن حميد من رواية أنس عن عبادة بن الصامت رفعه، وابن ماجه من حديث عائشة، بلفظ: قالت عائشة: "إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأما الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه". وروى أحمد من حديث رجل من الصحابة بلفظ: "قالوا إنما نكره الموت، قال ليس ذلك ولكنه إذا حضر فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله، والله عز وجل للقائه أحب; وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم، فإذا بشر بذلك كره لقاء الله، والله للقائه أكره".

(وروي أن حذيفة بن اليمان ) رضي الله عنهما (قال لابن مسعود ) كذا في النسخ كلها، وهو خطأ، والصواب لأبي مسعود، وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، البدري، صحابي جليل، وكان ملازما لحذيفة في مرضه الذي مات فيه (وهو لما به من آخر الليل: قم فانظر أي ساعة هي، فقام ابن مسعود ) كذا في النسخ، والصواب أبو مسعود (ثم جاءه فقال: قد طلعت الحمراء ) وهي النجمة التي تطلع قبل الفجر بقليل (فقال حذيفة ) رضي الله عنه (أعوذ بك من صباح إلى النار ) . وقال ابن أبي الدنيا: حدثني الربيع بن تغلب حدثنا فرج بن فضالة عن أسد بن وداعة قال: لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه قالوا له: ما تشتهي... فساق الحديث، وفيه: ثم قال: أصبحنا؟ قالوا: نعم، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم.

وقال أبو نعيم في الحلية حدثنا أبو حامد بن جبلة حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم حدثنا حصين عن أبي وائل قال: "لما ثقل حذيفة أتاه ناس من بني عبس، فأخبرني خالد بن الربيع العبسي قال: أتيناه وهو بالمدائن، حتى دخلنا عليه جوف الليل، فقال لنا: أي ساعة هذه؟ فقلنا جوف الليل أو آخر الليل، فقال: أعوذ بالله من صباح إلى النار، ثم قال: أجئتم معكم بأكفان؟ قلنا: نعم، قال: فلا تغالوا بأكفاني فإنه إن يكن لصاحبكم عند الله خير فإنه يبدل بكسوته كسوة خيرا منها، وإلا يسلب سلبا".

وروي من طريق جرير عن إسماعيل عن قيس عن أبي مسعود قال: "لما أتي حذيفة بكفنه، وكان مستندا إلى أبي مسعود، فأتي بكفن جديد، فقال: ما تصنعون بهذا؟... الحديث. وروي أيضا من طريق أبي إسحاق [ ص: 267 ] أن صلة بن زفر حدثه أن حذيفة بعثني وأبا مسعود فابتعنا له كفنا فساق الحديث، وإنما ذكرت هاتين الروايتين ليظهر أن في سياق المصنف هو أبو السعود لا ابن مسعود (ودخل مروان) بن الحكم بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن مناف القرشي الأموي أبو عبد الملك ويقال: أبو القاسم، ويقال: أبو الحكم المدني، ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع، لم يصح له سماع من النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديث الحديبية بطوله وهو عند البخاري وأبي داود والنسائي، وكان كاتبا لعثمان وولي إمرة المدينة لمعاوية والموسم، وبويع له بالخلافة بعد موت معاوية بن يزيد بن معاوية بالجابية، وكان الضحاك بن قيس قد غلب على دمشق وبايع بها لابن الزبير، ثم دعا إلى نفسه فصده مروان فواقعه بمرج راهط فقتل الضحاك وغلب على دمشق وذلك، في أواخر سنة أربع وستين ومات بها في رمضان سنة خمس وستين وهو ابن ثلاث وستين وكانت خلافته تسعة أشهر، وقيل: عشرة إلا أياما .

ونقل عن عروة بن الزبير أنه قال: كان مروان لا يتهم في الحديث، روى له الجماعة إلا مسلما (على أبي هريرة) -رضي الله عنه- وذلك حين مرض المرض الذي مات فيه (فقال مروان: اللهم خفف عنه، فقال أبو هريرة) -رضي الله عنه- (اللهم اشدد، ثم بكى أبو هريرة) -رضي الله عنه- (وقال: والله ما أبكي حزنا على الدنيا ولا جزعا من فراقكم ولكن أنتظر إحدى البشريين من ربي بجنة أو نار)

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت عن يحيى بن معين، حدثنا معن، حدثنا مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال: دخل مروان على أبي هريرة في شكواه الذي مات فيه، فقال: شفاك الله، فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي، فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات -رحمه الله تعالى- وأخرجه ابن الجوزي في كتاب الثبات من هذا الوجه، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أحمد بن بندار، حدثنا إبراهيم بن الحارث حدثنا عباس النرسي، حدثنا عبد الوهاب بن الورد، عن مسلم بن بشير بن عجل أن أبا هريرة بكى في مرضه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أما أنا لا أبكي على دنياكم هذه ولكن أبكي على بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار لا أدري أيهما يؤخذ بي.

(وروي في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الله -عز وجل- إذا رضي عن عبد قال: يا ملك الموت اذهب إلى فلان فأتني بروحه لأريحه، حسبي من عمله قد بلوته فوجدته حيث أحب، فينزل ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ومعهم قضبان الريحان وأصول الزعفران، كل واحد منهم يبشره ببشارة سوى بشارة صاحبه، وتقوم الملائكة صفين لخروج روحه معهم الريحان، فإذا نظر إليهم إبليس وضع يده على رأسه ثم صرخ، قال: فيقول له جنوده: ما لك يا سيدنا؟ فيقول: أما ترون ما أعطي هذا العبد من الكرامة؟ أين كنتم عن هذا؟ قالوا: جهدنا به فكان معصوما) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت في حديث تميم الداري بإسناد ضعيف بزيادة كثيرة فيه، ولم يصرح في أول الحديث برفعه وفي آخره ما دل على أنه مرفوع، وللنسائي حديث أبي هريرة بإسناد صحيح: إذا حضر الميت أرسل الله إليه ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضيا عنك إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان، الحديث. اهـ .

قلت: أما حديث تميم فقال ابن أبي الدنيا في كتاب الموت: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا عمر بن جرير الأحمسي، حدثنا بكر بن خنيس، عن ضرار بن عمر، وعن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: كان تميم الداري يحدثنا في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال ذات يوم: يقول الله تبارك وتعالى لملك الموت: انطلق يا ملك الموت إلى وليي فأتني به فإني قد ضربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب فأتني به لأريحه من هموم الدنيا وغمومها، فينطلق إليه ملك الموت ومعهم خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من حنوط الجنة ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر، فيجلس ملك الموت عند رأسه، وتحتوشه الملائكة، ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسط ذلك الحرير الأبيض وذلك المسك الأذفر تحت ذقنه، ويفتح له باب إلى الجنة. قال: فإن نفسه عند ذلك لتعلل بطرف الجنة مرة بأزواجها ومرة بكسوتها ومرة بثمارها، كما يعلل الصبي أهله إذا بكى وإن أزواجه يبتهشن عند ذلك ابتهاشا، وتنزو الروح نزوا، ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح [ ص: 268 ] الطيبة إلى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب، قال: وملك الموت أشد تلطفا به من الوالدة بولدها، يعرف أن ذلك الروح حبيب إلى ربه، كريم على الله، فهو يلتمس بلطفه تلك الروح رضا الله عنه، فيسل روحه كما تسل الشعرة من العجين، قال: وإن روحه لتخرج والملائكة حوله يقولون: سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، وذلك قوله: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم قال: فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم قال: روح من جهد الموت وريحان يتلقى به عند خروج نفسه وجنة نعيم أمامه، أو قال: مقابله، فإذا قبض ملك الموت روحه يقول الروح للجسد: جزاك الله بي خيرا لقد كنت بي سريعا إلى طاعة الله بطيئا عن معصية الله فهنيئا لك اليوم فقد نجوت وأنجيت، ويقول الجسد للروح مثل ذلك .

قال: وتبكي عليه بقاع الأرض التي كانت يطيع الله عليها، وكل باب من السماء كان يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة، فإذا قبضت الملائكة روحه أقامت الخمسمائة ملك عند جسده لا تقلبه بنو آدم بشق إلا قلبته الملائكة قبلهم وعلته بأكفان قبل أكفانهم وحنوط قبل حنوطهم ويقوم من باب بيته إلى باب قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار، ويصيح إبليس عند ذلك صيحة يتصدع منها بعض عظام جسده، ويقول لجنوده: الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم؟ فيقولون: إن هذا كان معصوما، فإذا صعد ملك الموت بروحه إلى السماء استقبله جبريل -عليه السلام- في سبعين ألفا من الملائكة كلهم يأتيه ببشارة من ربه، فإذا انتهى ملك الموت إلى العرش خرت الروح ساجدة لربها، فيقول الله لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود وطلح منضوض وظل ممدود وماء مسكوب، فإذا وضع في قبره جاءت الصلاة فكانت عن يمينه، وجاء الصيام فكان عن يساره وجاء القرآن والذكر فكانا عند رأسه، وجاء مشيه إلى الصلوات فكان عند رجليه، فجاء الصبر فكان ناحية القبر، فيبعث الله عنقا من العذاب فيأتيه عن يمينه فتقول الصلاة: وراءك، والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره، قال: فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك .

قال: فيأتيه من قبل رأسه فيقال له مثل ذلك فلا يأتيه العذاب من ناحية فيلتمس هل يجد له مساغا إلا وجد ولي الله قد أحرزته الطاعة، قال: فيخرج عنه العذاب عندما يرى، ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعني أن أباشره أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم فلو عجزتم كنت أنا صاحبه. فأما إذا أجزأتم عنه فأنا ذخر له عند الميزان .

قال: ويبعث الله إليه ملكين أبصارهم كالبرق الخاطف وأصواتهم كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في أشعارهما، بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة إلا بالمؤمنين، يقال لهما: منكر ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها الثقلان لم يقلوها، فيقولان له: اجلس، فيستوي جالسا في قبره فتسقط أكفانه في حقويه فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما نبيك؟ فيقول: ربي الله وحده لا شريك له، والإسلام ديني، ومحمد نبيي، وهو خاتم النبيين فيقولان له: صدقت، فيدفعان القبر فيوسعانه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ومن قبل رأسه ومن قبل رجله، ثم يقولان له: انظر فوقك فينظر فإذا هو مفتوح إلى الجنة، فيقولان له هذا منزلك يا ولي الله لما أطعت الله .

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فوالذي نفس محمد بيده إنه لتصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا فيقال له انظر تحتك فينظر تحته فإذا هو مفتوح إلى النار فيقولان له يا ولي الله نجوت من هذا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده إنه لتصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا، وتفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله من قبره.

قال: ويقول الله تعالى لملك الموت: انطلق إلى عدوي فأتني به فإني قد بسطت له رزقي وسربلته بنعمتي وأبى إلا معصيتي فأتني به لأنتقم منه اليوم، فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة يراها أحد من الناس له ثنتا عشر عينا ومعه سفود من نار كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم ومعهم سياط من نار تأجج، فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربا يغيب أصل كل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق من عروقه ثم يلويه ليا شديدا فينزع روحه من أظفار قدميه فيعلقها في عقبيه فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة وتضرب الملائكة وجه ودبره بتلك السياط ثم يجذبه جذبة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في [ ص: 269 ] ركبتيه فيسكر عدو الله سكرة وتضرب الملائكة وجهه ودبره، ثم كذلك إلى حقويه، ثم كذلك إلى صدره، ثم كذلك إلى حلقه، ثم يبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه، ثم يقول ملك الموت: اخرجي أيتها النفس اللعينة الملعونة إلى سموم وحموم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم، فإذا قبض ملك الموت روحه قالت الروح للجسد: جزاك الله عني شرا لقد كنت سريعا بي إلى معصية الله بطيئا بي عن طاعة الله، فقد هلكت وأهلكت، ويقول الجسد للروح مثل ذلك، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من بني آدم النار، فإذا وضع في قبره ضيق الله عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فتدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى، ويبعث الله إليه حيات دهما فتأخذ برقبته وإبهام قدميه فتقوضه حتى تلتقي في وسطه .

قال: ويبعث الله إليه ملكين فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فيضربانه ضربا يتطاير الشرار في قبره، ثم يعدو فيقولان له: انظر فوقك، فإذا باب مفتوح من الجنة، فيقولان: عدو الله لو أطعت الله لكان هذا منزلك، قال: فوالذي نفس محمد بيده أنه لتصل إلى قلبه حسرة لا ترتد أبدا، ويفتح له باب من النار فيقال له: عدو الله هذا منزلك لما عصيت الله، ويفتح له سبعة وسبعون بابا إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله يوم القيامة إلى النار.

قال السيوطي في أمالي الدرة الفاخرة بعد أن أورده من طريق ابن أبي الدنيا: هذا حديث غريب، أخرجه أبو يعلى في مسنده الكبير عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن محمد بن بكر البرساني، عن أبي عاصم البصري، عن بكر بن خنيس، عن ضرار، عن يزيد، عن أنس، عن تميم، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله لملك الموت: انطلق إلى وليي. فذكره بطوله، قال الحافظ ابن حجر: وهو شاهد لكثير مما ثبت في حديث البراء المشهور، لكن هذا عجيب السياق، غريب الإسناد، لا نعرف أحدا روى عن أنس عن تميم إلا من هذا الوجه، ويزيد الرقاشي سيئ الحفظ جدا، كثير المناكير، كان لا يضبط الإسناد، ودونه من هو مثله أو أشد ضعفا. اهـ .

قال السيوطي: ومن شواهده حديث أبي هريرة وله طرق، قلت: وسيأتي حديث البراء وحديث أبي هريرة فيما بعد إن شاء الله تعالى، وقول الحافظ: ودونه من هو مثله أو أشد ضعفا، يعني: أن رواته من بعد يزيد ضعفاء، ضرار بن عمر الملطي الراوي له عن يزيد قال الذهبي: متروك، والراوي عنه بكر بن قيس الكوفي، قال الدارقطني: متروك، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: كوفي عابد سكن بغداد، صدوق له أغلاط، أفرط فيه ابن حبان، وهو من رجال الترمذي، وابن ماجه وأبو عاصم البصري في سياق أبي يعلى هو العباداني اسمه عبد الله بن عبيد الله أو بالعكس، ويقال: ابن عبد بغير إضافة، من رجال ابن ماجه، لين الحديث، وقال الذهبي: روى عن الفضل الرقاشي، له حديث منكر، وعمرو بن جرير الأحمسي في سياق ابن أبي الدنيا ويقال: البجلي أبو سعيد، قال الذهبي: كذلك ومحمد بن الحسين شيخ ابن أبي الدنيا هو أبو الفتح الأزدي صاحب مناكير، ضعفه البرقاني.

(فصل) في ضبط ألفاظ تقدمت في الحديث.

قوله: ضباير، بضاد معجمة وباء موحدة آخره راء، قال ابن الأثير في النهاية: هي الجماعات في تفرقة واحدتها ضبارة بالكسر، مثل: عمارة وعماير، وكل مجتمع ضبارة .

وقوله: بطرف الجنة، بضم المهملة وفتح الراء، جمع: طرفة، وهي المستحدث من المال كالطريف والطارف، وهو خلاف التليد والتالد .

وقوله: ليبتهشن، في النهاية يقال: الإنسان إذا نظر إلى شيء فأعجب واشتهاه وأسرع نحوه فقد بهش إليه، وفي الصحاح: بهش إليه يبهش بهشا، إذا ارتاح إليه وخف إليه .

وقوله: تنزو الروح، في الصحاح: ينزو إلى كذا، أي: ينازع إليه ويسرع ويثب إليه، وفي النهاية نحوه، وقيل: تنزو أي: تنسل .

وقوله: دائبا من الدءوب أي: جادا تعبا، وقوله: عنقا من العذاب أي: طائفة منه، وقوله: كالصياصي بمهملتين وهي قرون البقر جمع: صيصية بالتخفيف، والسفود ،كتنور: الحديدة التي يشوى بها اللحم، والنحاس لا لهب فيه، والتأجج: بجمين، التوقد .

وقوله: دهما، يحتمل أن يكون بضم أوله أي: سودا، فيكون جمع دهماء، ويحتمل أن يكون بفتحه أي: يكون عددا كثيرا فيكون مفردا، والجمع: دهوم .

وقوله: فتقوضه بقاف، ثم واو، ثم ضاد معجمة، في الصحاح: قوضت البناء، نقضته من غير هدم، وتقوضت الحلق والصفوف انتقضت وتفرقت، وفي النهاية تقويض الخيام: قلعها وإزالتها، وقوضت الجمرة: جاءت وذهبت ولم تقر .

وأما حديث أبي هريرة الذي [ ص: 270 ] عزاه العراقي للنسائي فسيأتي للمصنف في بيان عذاب القبر وسؤال منكر ونكير، وكذا حديث البراء الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر ونتكلم عليهما هناك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية