إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال الجريري: كنت عند الجنيد في حال نزعه وكان يوم الجمعة ويوم النيروز وهو يقرأ القرآن فختم ، فقلت : له في هذه الحالة يا أبا القاسم ، فقال : ومن أولى بذلك مني ، وهو ذا تطوى صحيفتي وقال رويم حضرت وفاة أبي سعيد الخراز وهو يقول .


حنين قلوب العارفين إلى الذكر وتذكارهم وقت المناجاة للسر     أديرت كؤوس للمنايا عليهم
فأغفوا عن الدنيا كإغفاء ذي الشكر     همومهمو جوالة بمعسكر
به أهل ود الله كالأنجم الزهر     فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه
وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري     فما عرسوا إلا بقرب حبيبهم
وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر

وقيل للجنيد : إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت ، فقال : لم يكن بعجب أن تطير روحه اشتياقا .

وقيل لذي النون عند موته ما تشتهي ؟ قال أن أعرفه قبل موتي بلحظة .

وقيل لبعضهم وهو في النزع : قل الله فقال إلى متى تقولون الله وأنا محترق بالله .

وقال بعضهم : كنت عند ممشاد الدينوري فقدم فقير وقال : السلام عليكم هل هنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه قال ، فأشاروا إليه بمكان وكان ثم عين ماء فجدد الفقير الوضوء وركع ما شاء الله ومضى إلى ذلك المكان ومد رجليه ومات وكان أبو العباس الدينوري يتكلم في مجلسه فصاحت امرأة تواجدا فقال لها : موتي فقامت المرأة فلما بلغت باب الدار التفتت إليه وقالت قد مت : ووقعت ميتة .

ويحكى عن فاطمة أخت أبي علي الروذباري قالت : لما قرب أجل أبي علي الروذباري ، وكان رأسه في حجري فتح عينيه وقال : هذه أبواب السماء قد فتحت ، وهذه الجنان قد زينت ، وهذا قائل يقول يا أبا علي ، قد بلغناك الرتبة القصوى وإن لم تردها ثم أنشأ يقول .


وحقك لا نظرت إلى سواكا     بعين مودة حتى أراكا
أراك معذبي بفتور لحظ     وبالخد المورد من حياكا

وقيل للجنيد قل : لا إله إلا الله ، فقال : ما نسيته فأذكره وسأل جعفر بن نصير بكران الدينوري خادم الشبلي ما الذي رأيت منه فقال قال علي درهم مظلمة وتصدقت عن صاحبه بألوف فما على قلبي شغل أعظم منه ثم قال وضئني للصلاة ، ففعلت فنسيت تخليل لحيته وقد أمسك على لسانه فقبض على يدي وأدخلها في لحيته ثم مات فبكى جعفر وقال : ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة وقيل لبشر بن الحارث لما احتضر وكان يشق عليه : كأنك تحب الحياة ، فقال : القدوم على الله شديد .

وقيل لصالح بن مسمار ألا توصي بابنك وعيالك ؟ فقال : إني لأستحي من الله أن أوصي بهم إلى غيره ولما احتضر أبو سليمان الداراني أتاه أصحابه فقالوا أبشر فإنك تقدم على رب غفور رحيم ، فقال لهم : ألا تقولون احذر فإنك تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير ولما احتضر أبو بكر الواسطي قيل له : أوصنا فقال : احفظوا مراد الحق فيكم واحتضر بعضهم فبكت امرأته فقال لها ما يبكيك ؟ فقالت : عليك أبكي ، فقال : إن كنت باكية فابكي على نفسك فلقد بكيت لهذا اليوم أربعين سنة .

وقال الجنيد دخلت على سري السقطي أعوده في مرض موته فقلت : كيف تجدك ؟ فأنشأ يقول .

:

كيف أشكو إلى طبيبي ما بي     والذي بي أصابني من طبيبي

فأخذت المروحة لأروحه فقال : كيف ريح المروحة يجد من جوفه يحترق ، ثم أنشأ يقول .

:

القلب محترق والدمع مستبق     والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له     مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن يك شيء فيه لي فرج     فامنن علي به ما دام بي رمق

وحكي أن قوما من أصحاب الشبلي دخلوا عليه وهو في الموت فقالوا له : قل : لا إله إلا الله فأنشأ يقول .


إن بيتا أنت ساكنه ...     غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا     يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجا     يوم أدعو منك بالفرج

.


ثم شرع المصنف -رحمه الله تعالى- في ذكر أقاويل المحتضرين من السادة الصوفية

فقال (وقال الجريري) وهو أبو محمد أحمد بن محمد بن الحسين نسب إلى جده جرير، مصغرا، من أكابر أصحاب الجنيد، وصحب سهلا التستري (كنت عند الجنيد) أبي القاسم (في حال نزعه وكان يوم الجمعة ويوم النيروز) أي: أول يوم في السنة العجمية، وأصله أنور، ورأى النهار الجديد (وهو يقرأ القرآن فختم، فقلت: له في هذه الحالة يا أبا القاسم، فقال: ومن أولى بذلك مني، وهو ذا تطوى صحيفتي) نقله القشيري في الرسالة .

وقال أبو نعيم في الحلية: سمعت عبد المنعم بن عثمان يقول: سمعت أبا سعيد بن الإعرابي يقول: سمعت أبا بكر العطار يقول: حضرت الجنيد عند الموت في جماعة لأصحابنا: فكان قاعدا يصلي ويثني رجليه كلما أراد أن يسجد: فلم يزل كذلك حتى خرجت الروح من رجله، وثقل عليه حركتها فمد رجليه وقد تورمتا: فرآه بعض أصدقائه فقال: ما هذا يا أبا القاسم؟ فقال: هذه نعم الله أكبر، فلما فرغ من صلاته قال أبو محمد الجريري لو اضطجعت، قال: يا أبا محمد هذا وقت يؤخذ منه الله أكبر، فلم [ ص: 341 ] يزل ذلك حاله حتى مات - رحمه الله تعالى-

(وقال) أبو محمد (رويم) بن أحمد البغدادي -رحمه الله تعالى- (حضرت وفاة أبي سعيد) أحمد بن عيسى (الخراز) -رحمه الله تعالى- (وهو يقول في) آخر نفسه (حنين قلوب العارفين إلى الذكر * وتذكارهم وقت المناجاة للسر، أديرت كئوس للمنايا عليهم * فأغفوا) أي: أعرضوا (عن الدنيا كإغفاء ذي السكر * همومهم جوالة بمعسكر * به أهل ود الله كالأنجم الزهر * فأجسامهم في الأرض قتلى بحبه *) وفي بعض النسخ: تبلى، بدل، قتلى (وأرواحهم في الحجب نحو العلا تسري *) أي: تقطعها بسرعة إلى نحو العلى حتى لم يبق في قلوبهم حجاب يحجبها عنه لإعراضهم عن الدنيا (فما عرسوا) أي: ما نزلوا أي: في سفرهم (إلا بقرب حبيبهم * وما عرجوا من مس بؤس ولا ضر) أي: أحوالهم في الدنيا مع مولاهم هي التي حملتهم على حنين قلوبهم إليه وقت الارتحال، ولم يجدوا لما هم فيه من نزع الروح والأهوال ألما لإعراضهم، عن الدنيا نقله القشيري في الرسالة .

(وقيل للجنيد: إن أبا سعيد الخراز كان كثير التواجد عند الموت، فقال: لم يكن بعجب أن تطير روحه) اشتياقا للقاء ربه نقله القشيري في الرسالة وفيه إشارة إلى كمال حال الخراز في دوام شغله بالله وأنسه به في سائر أحواله .

(وقيل لذي النون) المصري -رحمه الله تعالى- (عند موته ماذا تشتهي؟ قال) أشتهي (أن أعرفه) فوق معرفتي له (قبل موتي بلحظة) رواه القشيري في الرسالة، والمعنى: أن ذا النون رأى نفسه مقصرا، عن القيام بحق معرفته فعد معرفته كلا معرفة، فطلب أن يستغرق في جلال الله وكماله بحسب ما علمه من ذلك .

(وقيل لبعضهم وهو في النزع: قل الله) أي: اذكره بلسانك (فقال إلى متى تقولون) لي قل الله (وأنا محترق بالله) فلست بغافل عنه فلا أحتاج إلى من يذكرني به. نقله القشيري في الرسالة وهذا يدل على كمال حضوره مع الله شديد المراقبة له.

(وقال بعضهم: كنت عند) أبي علي (ممشاد الدينوري) -رحمه الله تعالى- وجماعة (فقدم) عليهم (فقير) من الفقراء أرباب الأحوال (وقال: السلام عليكم) فردوا -عليه السلام- فقال لهم (هل ههنا موضع نظيف يمكن الإنسان أن يموت فيه، فأشاروا إليه بمكان) عينوه له (وكان ثم عين ماء فجدد) ذلك (الفقير الوضوء) منها (وركع ما شاء الله ومضى إلى ذلك المكان) الذي أشاروا إليه (ومد رجليه ومات) نقله القشيري في الرسالة، وابن خميس في مناقب الأبرار، وابن الملقن في الطبقات، وهذا من خرق العوائد، وهو مستثنى من عموم خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله فليطع الولي على ذلك، وفائدة هذه الحكاية أنه كان في مجلس الدينوري من ينكر خرق العوائد فأتى الله به جهارا مرتبا على سؤال وجواب ليرجع إليه من ينكره وينتفع به ويتقوى به من ينظره .

(وكان أبو العباس) أحمد بن محمد (الدينوري) -رحمه الله تعالى- صحب يوسف بن الحسين وابن عطاء والجريري وكان عالما فاضلا ورد نيسابور وأقام بها مدة يعظ ويتكلم على لسان أهل المعرفة، ثم ذهب إلى سمرقند فمات بها بعد الأربعين وثلاثمائة (يتكلم) للرجال وللنساء (في مجلسه) بنيسابور (فصاحت امرأة) ممن حضرت مجلسه لسماع الوعظ (تواجدا) بما سمعته منه من الحكم ومقامات القرب إلى الله تعالى فكره منها ذلك بحضرة الرجال (فقال لها موتي) إن كنت صادقة مغلوبة (فقامت المرأة فلما بلغت باب الدار التفتت إليه) ورجعت إلى الله بالاضطرار أن لا يفضحها وأن يميتها لتسلم من نسبتها إلى التكلف لأحوال الفقراء فأجاب الله دعاءها (وقالت: قدمت ووقعت ميتة) رحمها الله تعالى .

نقله القشيري في الرسالة، قال: سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول: كان أبو العباس فذكره (ويحكى عن فاطمة) ابنة محمد (أخت أبي علي) أحمد بن محمد (الروذباري) البغدادي، ثم المصري وكانت من العارفات، وهي والدة أبي العباس أحمد بن عطاء، لها كلام حسن، روى عنها أخوها وعاشت بعده (قالت: لما قرب أجل) أخي ( أبي علي الروذباري، وكان رأسه في حجري فتح عينيه) وكان قد أغمي عليه (وقال: هذه أبواب السماء قد فتحت، وهذه الجنان قد زينت، وهذا قائل يقول) لي (يا أبا علي، قد بلغناك الرتبة القصوى) وإن لم تسألها وأعطيناك درجة الأكابر وإن لم تردها، وهذا لأن المحتضر قد يكشف [ ص: 342 ] له من الأمور الملكوتية فيرى ما لا يراه الغير كما تقدم ( ثم أنشأ يقول .


وحقك لا نظرت إلى سواك بعين مودة حتى أراكا     أراك معذبي بفتور لحظ
وبالخد المورد من جناكا )



نقله القشيري في الرسالة، وابن الملقن في الطبقات، وابن حسين في مناقب الأبرار، وزادوا: ثم قال: يا فاطمة الأول ظاهر والثاني إشكال، أي: أول البيتين ظاهر إذ هو قسم بعظمته وجلاله تعالى أن لا يلتفت إلى غيره، والثاني منهما فيه إشكال على من لم يعرف المراد به ويتوهم أنه راجع إلى ربه، وفي بعض نسخ الرسالة بعد البيت الثاني:


فلو قطعتني في الحب إربا     لما حن الفؤاد إلى سواكا



(وقيل للجنيد) قدس سره عند النزع (قل: لا إله إلا الله، فقال: ما نسيته فأذكره) نقله القشيري في الرسالة يشير إلى أن الذكر يكون عن الغفلة عن المذكور، وأنا لم أغفل عنه طرفة عين فكيف أذكره وهو مقام الاستغراق .

قال القشيري في الرسالة سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت بعض أصحابنا يقول: قال أبو يزيد عند موته: ما ذكرتك إلا عن غفلة ولا قبضتني إلا على فترة .

(وسأل) أبو محمد (جعفر بن) محمد بن (نصير) البغدادي المعروف بالخلدي، صحب الجنيد، وانتمى إليه، وصحب النوري وسمنون، مات ببغداد سنة 348 (بكران الدينوري خادم الشبلي) -رحمه الله تعالى- (ما الذي رأيت منه) أي: عند وفاته (فقال) بكران (قال) لي الشبلي (علي درهم مظلمة وتصدقت عن صاحبه بألوف فما على قلبي شغل أعظم منه) لأجل براءة الذمة (ثم قال) لي (وضئني للصلاة، ففعلت) أي: وضأته (فنسيت تخليل لحيته وقد أمسك) بالبناء للمفعول (على لسانه) أي: لم يطق التكلم (فقبض على يدي وأدخلها في لحيته) لأخللها (ثم مات فبكى جعفر) السائل (وقال: ما تقولون في رجل لم يفته في آخر عمره أدب من آداب الشريعة) وفيه دلالة على كمال فضيلة الشبلي وتعظيمه للشريعة وثباته عليها عند الموت .

ورواه القشيري في الرسالة فقال: سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سأل جعفر بن نصير بكران الدينوري وكان يخدم الشبلي، فساقه .

ورواه ابن الملقن في الطبقات إلا أنه سمى خادمه بكيرا الدينوري.

(وقيل لبشر بن الحارث) الملقب بالحافي، قدس سره (لما احتضر وكان يشق عليه: كأنك) يا أبا نصر (تحب الحياة، فقال: القدوم على الله شديد) رواه القشيري في الرسالة .

وقد روي عن سفيان الثوري أنه لما احتضر قال: كنا نتمناه فإذا هو شديد .

(وقيل لصالح بن مسمار) البصري العابد سكن الجزيرة (ألا توصي بابنك وعيالك؟ فقال: إني لأستحي من الله أن أوصي بهم إلى غيره) تعالى .

(ولما احتضر أبو سليمان) عبد الرحمن بن أحمد (الداراني) -رحمه الله تعالى- (أتاه أصحابه فقالوا) له (أبشر فإنك تقدم على رب) كريم (غفور رحيم، فقال لهم: ألا تقولون لحذر فإنك تقدم على رب يحاسبك بالصغير ويعاقبك بالكبير) وهذا مقام من غلب على قلبه الخوف فلم يطمئن .

(ولما احتضر الواسطي) هو أبو بكر محمد بن موسى صحب الجنيد والنوري (قيل له: أوصنا فقال: احفظوا مراد الحق فيكم) وهي كلمة جامعة للخيور كلها، فإن مراد الحق من عبده أن يكون له خاصة، فلا يضاف إلا له ولا ينتسب إلا إليه، وهذا هو التوحيد الخالص (واحتضر بعضهم فبكت امرأته فقال) لها (ما يبكيك؟ فقالت: عليك أبكي، فقال: إن كنت باكية فابكي على نفسك فلقد بكيت لهذا اليوم أربعين سنة، وقال الجنيد) قدس سره (دخلت على) أستاذي (السري السقطي أعوده في مرض موته فقلت: كيف تجدك؟ فأنشأ يقول:


كيف أشكو إلى طبيبي ما بي     والذي بي أصابني من طبيبي )

وهو مثل قول الصديق -رضي الله عنه- لما قيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني، وقول حذيفة -رضي الله عنه- لما [ ص: 343 ] قيل له ذلك قال: الطبيب أمرضني (فأخذت المروحة لأروحه فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق، ثم أنشأ يقول:


القلب محترق والدمع مستبق     والكرب مجتمع والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له     مما جناه الهوى والشوق والقلق
يا رب إن يك شيء فيه لي فرج     فامنن علي به ما دام بي رمق

وحكي أن قوما من أصحاب) أبي بكر (الشبلي دخلوا عليه وهو في الموت فقالوا له: قل: لا إله إلا الله فأنشأ يقول:

...

إن بيتا أنت ساكنه ...     غير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنا     يوم يأتي الناس بالحجج
لا أتاح الله لي فرجا     يوم أدعو منك بالفرج )



قال القشيري في الرسالة: سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: بلغني عن أبي محمد الهروي، قال: مكثت عند الشبلي الليلة التي مات فيها فكان يقول طول ليلته هذين البيتين فساقهما، ولم يذكر البيت الثالث .

التالي السابق


الخدمات العلمية