إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان زيارة القبور والدعاء للميت وما يتعلق به .

زيارة القبور مستحبة على الجملة للتذكر والاعتبار وزيارة قبور الصالحين لأجل التبرك مع الاعتبار ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ، ثم أذن في ذلك بعد روي عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرا .

وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه في ألف مقنع فلم ير باكيا أكثر من يومئذ ، وفي هذا اليوم قال : أذن لي في الزيارة دون الاستغفار كما أوردنا من قبل .

وقال ابن أبي مليكة أقبلت عائشة رضي الله عنها يوما من المقابر فقلت : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن ، فقلت : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ؟ قالت : نعم ، ثم أمر بها ولا ينبغي أن يتمسك بهذا فيؤذن للنساء في الخروج إلى المقابر فإنهن يكثرن الهجر على رءوس المقابر فلا يفي خير زيارتهن بشرها ولا يخلون في الطريق عن تكشف وتبرج وهذه عظائم والزيارة سنة فكيف يحتمل ذلك لأجلها .

نعم لا بأس بخروج المرأة في ثياب بذلة ترد أعين الرجال عنها وذلك بشرط الاقتصار على الدعاء وترك الحديث على رأس القبر .

وقال أبو ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة ، وصل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك فإن الحزين في ظل الله وقال ابن أبي مليكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زوروا موتاكم وسلموا عليهم فإن لكم فيهم عبرة وعن نافع عن ابن عمر كان لا يمر بقبر أحد إلا وقف عليه وسلم عليه وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن فاطمة بنت النبي ، صلى الله عليه وسلم كانت تزور قبر عمها حمزة في الأيام فتصلي وتبكي عنده .


(بيان زيارة القبر والدعاء للميت وما يتعلق به)

اعلم أن (زيارة القبور مستحبة على الجملة للتذكر والاعتبار وزيارة قبور الصالحين) خاصة (محبوبة) أي: مرغوب إليها (لأجل التبرك مع الاعتبار، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك بعد) كما رواه مسلم من حديث بريدة، وقد تقدم (وقد روي عن علي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرا ) بضم فسكون أي قبيحا أو فحشا، وكان سبب النهي عن زيارة القبور حدثان العهد بالكفر، ثم لما انمحت آثار الجاهلية واستحكم الإسلام وصاروا أهل يقين وتقوى أذن لهم في الزيارة، ولكن بشروط يأتي ذكرها للمصنف بعد، وقال القاضي: الفاء متعلق بمحذوف أي نهيتكم عن زيارتها مباهاة بتكاثر الأموات فعل الجاهلية، وأما الآن فقد جاء الإسلام وهدم قواعد الشرك فزوروها فإنها تورث رقة القلب، وتذكر الموت والبلى. اهـ .

ونعم الدواء هي لمن قسا قلبه ولزمه ذنبه، فإن انتفع بالإكثار منها فذاك وإلا أكثر من مشاهدة المحتضرين فليس الخبر كالعيان، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أذن النبي -صلى الله عليه وسلم- في زيارتها بعد النهي، وعلله بأنها تذكر الموت والدار الآخرة، وأذن إذنا عاما في زيارة قبر المسلم والكافر، والسبب الذي ورد عليه لفظ الخبر يوجب دخول الكافر، والعلة موجودة في ذلك كله، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي قبور البقيع والشهداء للدعاء والاستغفار لهم، فهذا المعنى يختص بالمسلمين. اهـ .

وقال المناوي في شرح الجامع الصغير: نهيتكم خطاب رجال فلا تدخل فيه الإناث على المختار عند أصحابنا، فلا يندب لهن، لكن يجوز على الكراهة، ثم الزيارة بمجرد هذا القصد يستوي فيها سائر القبور، ولا يخص قبر دون قبر. قال السبكي: متى كانت الزيارة لهذا القصد لا يشرع فيها قصد قبر بعينه، ولا تشد الرحال لها، وعليه يحمل ما في شرح مسلم من منع شد الرحال لزيارة القبور، وكذا بقصد التبرك إلا للأنبياء فقط. اهـ .

وقال بعضهم: استدل به على حل زيارة القبور هب الزائر ذكرا أم أنثى والمزور مسلما أم كافرا، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي: لا يجوز زيارة قبر الكافر وهو غلط. اهـ .

قال العراقي في هذا الحديث: رواه أحمد أبو يعلى في مسنده وابن أبي الدنيا في كتاب القبور واللفظ له، ولم يقل أحمد وأبو يعلى غير أن لا تقولوا هجرا، وفيه علي بن زيد بن جدعان بن ربيعة بن النابغة، قال البخاري: لم يصح، وربيعة ذكره ابن حبان في الثقات. اهـ .

قلت: ورواه أيضا ابن أبي شيبة في المصنف فقال: حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن ربيعة بن النابغة، عن أبيه، عن علي، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن زيارة القبور، ثم قال: إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها تذكركم الآخرة. وقد روي هذا الحديث من طرق عن بريدة وعائشة [ ص: 362 ] وابن مسعود وأنس وابن عباس وأبي سعيد وواسع بن حبان وأم سلمة فحديث بريدة عند مسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها. زاد الترمذي: فإنها تذكركم الآخرة وهو عند الحاكم بزيادة: ولتذكركم زيارتها خيرا، وعند أبي داود بزيادة: فإن في زيارتها تذكرة، وحديث عائشة رواه الحاكم في معجم شيوخه وابن النجار بلفظ الترمذي وحديث ابن مسعود رواه ابن ماجه والحاكم بلفظ: فزوروا القبور، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة وحديث أنس رواه الحاكم وابن النجار: وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، ثم بدا لي ألا فزوروها فإنها ترق القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجرا. وحديث ابن عباس عند الطبراني بلفظ: فزوروها ولا تقولوا هجرا. (وزار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه في ألف مقنع فلم ير باكيا أكثر من يومئذ، وفي هذا اليوم قال: أذن لي في الزيارة دون الاستغفار كما أوردنا من قبل) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من حديث بريدة وشيخه أحمد بن عمران الأخنسي متروك، ورواه بنحوه من وجه آخر كنا معه قريبا من ألف راكب وفيه أنه لم يأذن له في الاستغفار، ورواه مسلم من حديث أبي هريرة: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي. اهـ .

قلت: روى ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: زار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت، وروي أيضا من طريق مسروق عن عبد الله رفعه: إني نهيتكم عن زيارة القبور فإنه قد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكركم (وقال ابن أبي مليكة) هو عبد الله بن عبيد الله وأبو مليكة بالتصغير اسمه زهير بن عبد الله بن جدعان التميمي المدني تابعي جليل أدرك ثلاثين من الصحابة روى له الجماعة (أقبلت عائشة رضي الله عنها يوما من المقابر فقالت: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن، فقلت: أليس كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عنها؟ قالت: نعم، ثم أمر بها) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بسند جيد. اهـ .

قلت: ورواه ابن أبي شيبة في المصنف، فقال: حدثنا عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشى، قال ابن جريج الحبشي على اثني عشر ميلا من مكة، فدفن بمكة، فلما قدمت عائشة أتت قبره فقالت:

وكـنـا كـنـدمـانـي جـذيـمـة حـقـبـة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا     فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ثم قالت: أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مت، ولو شهدتك ما زرتك (ولا ينبغي أن يتمسك بهذا فيؤذن للنساء في الخروج إلى المقابر فإنهن يكرثن الهجر) أي: الفحش من القول (على رءوس المقابر فلا يفي خير زيارتهن بشرها ولا يخلون في الطريق عن تكشف) للعورة (وتبرج) أي: تزين (وهذه عظائم والزيارة سنة) مستحبة (فكيف يحتمل ذلك لأجلها نعم لا بأس بخروج المرأة في ثياب بذلة) أي: حقيرة (ترد أعين الرجال عنها وذلك بشرط الاقتصار على الدعاء) والاستغفار (وترك الحديث على رأس القبر) إلا ما أهم (وقال أبو ذر) الغفاري -رضي الله عنه- (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة، وصل على الجنائز لعل ذلك أن يحزنك فإن الحزين في ظل الله) .

قال العراقي رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور والحاكم بإسناد جيد .

قلت: رواه الحاكم من طريق موسى الضبي عن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى بن سعيد، عن أبي مسلم الخولاني عن ابن عمير عن أبي ذر وزاد في آخره يوم القيامة يتعرض لكل خير، ثم قال: رجاله ثقات قال الذهبي: لكنه منكر، ويعقوب واه، ويحيى لم يدرك أبا مسلم فهو منقطع. اهـ .

ورواه البيهقي كذلك، وقال: هذا متن منكر، وفيه يعقوب بن إبراهيم أظنه المدني المجهول، والشطر الأول من الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ: زر القبور فإنها تذكر الموت، وروى ابن ماجه وابن منيع بلفظ: وزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة [ ص: 363 ] (وقال ابن أبي مليكة) عبد الله بن عبيد الله التميمي التابعي (قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: زوروا موتاكم وسلموا عليهم فإن لكم فيهم عبرة) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور هكذا مرسلا وإسناده حسن. اهـ .

قلت: لفظ ابن أبي الدنيا فسلموا عليهم وصلوا عليهم، وقد رواه الديلمي من حديث عائشة متصلا بلفظ: زوروا إخوانكم، وسلموا عليهم، وصلوا فإن لكم فيهم عبرة (وعن نافع عن ابن عمر) -رضي الله عنه- (أنه كان لا يمر بقبر أحد إلا وقف عليه وسلم عليه) .

قال ابن أبي شيبة في المصنف، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن موسى بن عقبة أنه رأى سالم بن عبد الله لا يمر بليل ولا نهار بقبر إلا سلم عليه، ونحن مسافرون معه يقول: السلام عليكم فقلت له في ذلك فأخبرنيه عن أبيه أنه كان يصنع ذلك قال: وحدثنا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان إذا قدم وقد مات بعض ولده قال: دلوني على قبره فيدلونه عليه فينطلق فيقوم عليه ويدعو له (وعن جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عن أبيه) محمد بن علي (أن) جدته (فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها (كانت تزور قبر عمها) أي، عم أبيها (حمزة) بن عبد المطلب -رضي الله عنه- (في الأيام فتصلي وتبكي عنده) .

وروى البيهقي في الشعب عن الواقدي، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يزور الشهداء بأحد في كل حول، وإذا بلغ رفع صوته فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، ثم أبو بكر كل حول يفعل مثل ذلك، ثم عمر، ثم عثمان، وكانت فاطمة -رضي الله عنها- تأتيه وتدعو، وكان سعد بن أبي وقاص يسلم عليهم، ثم يقبل على أصحابه فيقول: ألا تسلمون على قوم يردون عليكم السلام.

التالي السابق


الخدمات العلمية