إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وعن حذيفة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على رأس القبر ثم جعل ينظر فيه ثم قال : يضغط المؤمن في هذا ضغطة ترد منه حمائله وقالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للقبر ضغطة ولو سلم أو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ وعن أنس قال : توفيت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة مسقامة فتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فساءنا حاله ، فلما انتهينا إلى القبر فدخله التمع وجهه صفرة ، فلما خرج أسفر وجهه ، فقلنا : يا رسول الله ، رأينا منك شأنا فمم ذلك ؟ قال : ذكرت ضغطة ابنتي وشدة عذاب القبر فأتيت فأخبرت أن الله قد خفف عنها ، ولقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين .


ولما فرغ المصنف من بيان سؤال منكر ونكير وصورتهما في الشرع في بيان ضغطة القبر التي هي من جملة الفتن فقال:

(وعن حذيفة) بن اليماني، رضي الله عنهما (قال كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنازة فجلس على رأس القبر) وفي رواية: فلما انتهينا إلى القبر قعد على شفته (ثم جعل ينظر فيه) وفي رواية: فجعل يردد بصره فيه (ثم قال: يضغط المؤمن في هذا) وفي رواية: يضغط فيها المؤمن (ضغطة ترد منه حمائله) وفي رواية تزول منها حمائله، قال الأزهري : الحمائل هنا عروق الأنثيين، قال: ويحتمل أن يراد موضع حمائل السيف، أي: عواتقه وصدره وأضلاعه، قال العراقي : رواه أحمد بسند ضعيف. ا هـ .

قلت: وكذلك رواه الحكيم في النوادر والبيهقي في عذاب القبر بزيادة: ويملأ على الكافر فيه نارا. وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ورد عليه الحافظ ابن حجر في القول المدد .

(وقالت عائشة -رضي الله عنها- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: إن للقبر ضغطة ولو سلم منها أو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ ) قال العراقي : ورواه أحمد بسند جيد. ا هـ .

قلت: لفظ أحمد : ولو كان أحد ناجيا منها نجا منها سعد بن معاذ . وكذلك رواه البيهقي، وروى أحمد والحكيم والطبراني والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: لما دفن سعد بن معاذ سبح النبي -صلى الله عليه وسلم- وسبح الناس معه طويلا، ثم كبر وكبر الناس، ثم قالوا: يا رسول الله، لم سبحت؟ قال: لقد تضايق على هذا الرجل الصالح قبره حتى فرج الله عنه .

وروى سعيد بن منصور والحكيم والطبراني والبيهقي عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم دفن سعد بن معاذ وهو قاعد على قبره قال: لو نجا من ضمة القبر أحد لنجا سعد بن معاذ، ولقد ضم ضمة ثم أرخي عنه، وروى النسائي والبيهقي عن ابن عمر رفعه قال: هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهد جنازته سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة، ثم فرج عنه، يعني: سعد بن معاذ، قال الحسن : تحرك له العرش فرحا بروحه .

أخرجه البيهقي في الدلائل والترمذي والحاكم والبيهقي عنه قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: قبر سعد بن معاذ فاحتبس، فلما خرج قيل: يا رسول الله، ما حبسك؟ قال: ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله أن يكشف عنه، وروى هناد في الزهد عن ابن أبي مليكة قال: ما أجير من ضغطة القبر أحد إلا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وقال ابن سعد : أنبأنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان قال: بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: وهو قائم عند قبر سعد بن معاذ : لقد ضغط ضغطة أو همز همزة لو كان أحدنا ناجيا منها لنجا سعد .

وروى ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه أن نافعا مولى ابن عمر لما حضرته الوفاة جعل يبكي فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت سعدا وضغطة القبر.

وروي عن عبد الرزاق، عن مجاهد قال: أشد حديث سمعناه من النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله في سعد بن معاذ، وقوله في أمر القبر .

وروى الحكيم والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني أمية بن عبد الله أنه سأل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا؟ فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في بعض الطهور من البول، قلت: روى هناد في الزهد عن الحسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال حين دفن سعد بن معاذ أنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة، فدعوت الله أن يرفع عنه، وذلك بأنه كان لا يستبرئ من البول.

وروى ابن سعد في الطبقات قال: أخبرنا شبابة بن سوار، أخبرني أبو مشعر عن سعيد المقبري قال: لما دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعدا قال: لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد، ولقد ضم ضمة اختلفت منها أضلاعه من أثر البول، وهذه الأخبار تؤيد قول من قال: إن المراد به تقصيره من بول نفسه، وهو الظاهر، ويرد قوله من وجه بأنه كان له إبل كثيرة فلعله كان يدخل بينها فيصيب ثوبه أو بدنه منها وهو لا يعلم .

(وعن أنس ) -رضي الله عنه- (قال: توفيت زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ) ورضي عنها، وكان وفاتها في أول سنة ثمان من الهجرة (وكانت امرأة مسقامة) أي: كثيرة الأمراض (فتبعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساءنا حاله، فلما انتهينا إلى القبر فدخله التمع وجهه [ ص: 423 ] صفرة، فلما خرج أسفر وجهه، فقلنا: يا رسول الله، رأينا منك شأنا فمم ذلك؟ قال: ذكرت ضغطة ابنتي وشدة عذاب القبر فأتيت فأخبرت أن قد خفف عنها، ولقد ضغطت ضغطة سمع صوتها ما بين الخافقين) قال العراقي : رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت من رواية الأعمش عن أنس ولم يسمع منه. ا هـ .

قلت: رأى الأعمش إنسانا، قال ابن المديني ولم يحمل عنه إنما رآه يخضب ورآه يصلي وإنما سمعها من يزيد الرقاشي وأبان عن أنس وقال ابن معين : كل ما روى الأعمش عن أنس فهو مرسل، وعن وكيع عن الأعمش، قال: رأيت إنسانا وما منعني أن أسمع منه إلا استغنائي بأصحابي، قلت: وروى عن أنس في سنن أبي داود والترمذي، وقد روى الطبراني من هذا الوجه عن أنس قال: توفيت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فخرجنا معه فرأيناه مهتما شديد الحزن، فقعد على القبر هنية وجعل ينظر إلى السماء، ثم نزل فيه فرأيته يزداد حزنا، ثم خرج فرأيته سري عنه وتبسم فسألناه، فقال: كنت أذكر ضيق القبر وغمه وضعف زينب، فكان ذلك يشق علي، فدعوت الله أن يخفف عنها، ففعل، ولكن ضغطها ضغطة سمعها ما بين الخافقين إلا الجن والإنس .

وقد روي نحو ذلك في ابنته رقية -رضي الله عنها- روى سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا عن زاذان أبي عمر قال: لما دفن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابنته رقية جلس عند القبر فتربد وجهه، ثم سري عنه فسأله أصحابه عن ذلك، فقال: ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر؛ فدعوت الله ففرج عنها، وأيم الله لقد ضمت ضمة سمعها ما بين الخافقين .

وقد عرف مما تقدم من الأخبار والآثار أن ضمة القبر لكل أحد، فدخل فيه الصبيان الذين ماتوا صغارا، ومما يشهد لذلك ما رواه الطبراني بسند صحيح عن ابن أبي أيوب أن صبيا دفن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي .

وروي عن ابن معبد في كتاب الطاعة والعصيان من طريق إبراهيم الغنوي عن رجل قال: كنت عند عائشة فمرت جنازة صبي فبكت، فقلت لها: ما يبكيك؟ قالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر، وروى عمر بن شبة في كتاب المدنية عن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ما عفي أحد من ضغطة القبر إلا فاطمة بنت أسد، قيل: يا رسول الله، ولا القاسم ابنك؟ قال: ولا إبراهيم، وكان أصغرهما، ومن الغريب ما قال الزبير بن بكار في الموفقيات: حدثني أبو غزية الأنصاري عن إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: قال عبد الله بن عمر : وتوفي سعد بن معاذ، فخرج إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبينما هم يمشون إذ تخلف فوقفوا حتى أدركهم، فقالوا: يا نبي الله ما خلفك عنا؟ قال: سمعت سعد بن معاذ حين ضم في قبره وقد اهتز له عرش الرحمن، فقال: سعد أكرم على الله أم يحيى بن زكريا؟! فوالذي نفسي بيده لقد ضم؛ لأنه شبع شبعة من خبز شعير .

قال السيوطي : هذا حديث منكر بمرة وإسناده معضل، والمعروف أن الأنبياء لا يضغطون، قال أبو القاسم السعدي في كتاب الروح له: لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح غير أن الفرق بين المسلم والكافر فيها دوام الضغطة للكافر، وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره، ثم يعود إلى إفساح له فيه، قال: والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت، وقال الحكيم الترمذي : سبب هذه الضغطة أنه ما من أحد إلا وقد ألم بخطيئة ما وإن كان صالحا فجعلت هذه الضغطة جزاء لها، ثم تدركه الرحمة؛ ولذلك ضغط سعد بن معاذ في التقصير من البول، قال: وأما الأنبياء عليهم السلام فلا نعلم أن لهم في القبور ولا سؤال لعصمتهم، وقال النسفي في بحر الكلام: المؤمن المطيع لا يكون له عذاب القبر وتكون له ضغطة القبر، فيجد هول ذلك وخوفه لما أنه تنعم بنعمة الله تعالى ولم يشكر النعمة .

وروى ابن أبي الدنيا عن محمد التميمي قال: كان يقال إن ضمة القبر إنما أصلها أنها أمهم ومنهم خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة، فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضمة الوالدة التي غاب عنها ولدها ثم قدم عليها، فمن كان مطيعا ضمته برأفة ورفق ومن كان عاصيا ضمته بعنف سخطا منها عليه لربها .

وروى البيهقي وابن منده والديلمي وابن النجار عن سعيد بن المسيب أن عائشة قالت: يا رسول الله، منذ يوم حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء؟ قال: يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في أسماع المؤمنين كالإثمد في العين، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزا رفيقا ولكن [ ص: 424 ] يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة؟ !

* (فائدة) *

قال بعضهم: من فعل سيئة فإن عقوبتها تدفع عنه بعشرة أسباب: أن يتوب فيتاب عليه، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات فتمحوها، أو يبتلى في الدنيا بمصائب فتكفر عنه، أو في البرزخ بالضغطة والفتنة فتكفر عنه، أو يدعو له إخوانه من المؤمنين ويستغفرون له، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه، أو يبتلى على عرصات القيامة بأهوال تكفر عنه، أو تدركه شفاعة نبيه أو رحمة ربه .

التالي السابق


الخدمات العلمية