إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
صفة الصراط .

ثم تفكر بعد هذه الأهوال في قول الله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا وفي قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون فالناس بعد هذه الأهوال يساقون إلى الصراط وهو جسر ممدود على متن النار أحد من السيف وأدق من الشعر فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم خف على صراط الآخرة ونجا ، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا وأثقل ظهره بالأوزار وعصى تعثر في أول قدم من الصراط وتردى فتفكر الآن فيما يحل من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته ، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته ، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك عن المشي على بساط الأرض فضلا عن حدة الصراط ، فكيف بك إذا وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته واضطررت إلى أن ترفع القدم الثانية والخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم كيف يتنكسون فتتسفل إلى جهة النار رءوسهم وتعلو أرجلهم فيا له ؛ من منظر ! ما أفظعه ! ومرتقى ما أصعبه ! ومجاز ما أضيقه ! فانظر إلى حالك وأنت تزحف عليه وتصعد إليه وأنت مثقل الظهر بأوزارك ، تلتفت يمينا وشمالا إلى الخلق وهم يتهافتون في النار والرسول عليه السلام يقول : يا رب سلم سلم والزعقات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق ، فكيف بك لو زلت قدمك ولم ينفعك ندمك فناديت بالويل والثبور وقلت : هذا ما كنت أخافه فيا ليتني قدمت لحياتي ، يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتا ! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ، يا ليتني كنت ترابا ! يا ليتني كنت نسيا منسيا يا ليت أمي لم تلدني وعند ذلك تختطفك النيران والعياذ بالله ، وينادي المنادي اخسئوا فيها ولا تكلمون ، فلا يبقى سبيل إلا الصياح والأنين والتنفس والاستغاثة، فكيف ترى الآن عقلك وهذه الأخطار بين يديك ، فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفار في دركات جهنم وإن كنت به مؤمنا وعنه غافلا وبالاستعداد له متهاونا ، فما أعظم خسرانك وطغيانك ! وماذا ينفعك إيمانك إذا لم يبعثك على السعي في طلب رضا الله تعالى بطاعته وترك معاصيه ، فلو لم يكن بين يديك إلا هول الصراط وارتياع قلبك من خطر الجواز عليه ، وإن سلمت فناهيك به هولا وفزعا ورعبا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجيز بأمته من الرسل ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم : اللهم ، سلم ، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا : نعم يا رسول الله ، قال فإنها : مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى ، تختطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو وقال أبو سعيد الخدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تختطف الناس يمينا وشمالا وعلى جنبتيه ملائكة يقولون : اللهم سلم اللهم سلم ، فمن الناس من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالفرس المجرى ، ومنهم من يسعى سعيا ، ومنهم من يمشي مشيا ، ومنهم من يحبو حبوا ، ومنهم من يزحف زحفا ، فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون ، وأما ناس فيؤخذون بذنوب وخطايا فيحترقون فيكونون فحما ، ثم يؤذن في الشفاعة ، وذكر إلى آخر الحديث .


(صفة الصراط)

(ثم تفكر يا مسكين بعد هذه الأهوال في قوله تعالى: يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ) أي: ركابا ( ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ) أي: عطاشا (وفي قوله تعالى: فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون ) أي: عن أعمالهم وأقوالهم ونياتهم (فالناس بعد هذه الأهوال) في الموقف (يساقون إلى الصراط) وهو كما في الأخبار الواردة ( جسر ممدود على متن النار أحد من السيف وأدق من الشعر فمن استقام في هذا العالم على الصراط المستقيم) المشار إليه بقوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم وقد اختلف في تفسيره على أقوال كثيرة أشهرها طريق الحق (خف على صراط الآخرة ونجا، ومن عدل عن الاستقامة في الدنيا وأثقل ظهره بالأوزار وعصى تعثر في أول قدم من الصراط وتردى) .

وروى الحاكم عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أمامكم عقبة كئود لا يجوزها المثقلون . وذكر صاحب المواهب أن في الآخرة صراطين أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلا من دخل الجنة بغير حساب أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله تعالى؛ لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم، وقد روى البخاري من حديث أبي سعيد : يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى في الجنة بمنزله في الدنيا .

(فتفكر الآن فيما يحل من الفزع بفؤادك إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرك على سواد جهنم من تحته، ثم قرع سمعك شهيق النار وتغيظها) وزفيرها (وقد كلفت أن تمشي على الصراط مع ضعف حالك واضطراب قلبك وتزلزل قدمك وثقل ظهرك بالأوزار المانعة لك عن المشي على بساط الأرض فضلا عن حدة الصراط، فكيف بك إذ وضعت عليه إحدى رجليك فأحسست بحدته واضطررت إلى أن ترفع القدم الثاني والخلائق بين يديك يزلون ويتعثرون وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب وأنت تنظر إليهم كيف يتنكسون فتنسبل إلى جهة النار رءوسهم وتعلو أرجلهم؛ فيا له من منظر! ما أفظعه! ومرتقى ما أصعبه! ومجاز ما أضيقه! فانظر إلى حالك وأنت تزحف عليه وتصعد إليه وأنت مثقل الظهر بأوزارك، تلتفت يمينا وشمالا إلى الخلق وهم يتهافتون) . [ ص: 482 ] أي: يتساقطون (في النار والرسول -عليه السلام- يقول: يا رب سلم سلم) وكذلك الملائكة، وهو شعار المؤمنين يومئذ كما في الخبر وسيأتي .

(والزعفات بالويل والثبور قد ارتفعت إليك من قعر جهنم لكثرة من زل عن الصراط من الخلائق، فكيف بك لو زلت قدمك ولم ينفعك ندمك فناديت بالويل والثبور وقلت: هذا ما كنت أخافه) في الدنيا (فيا ليتني قدمت لحياتي، يا ليتني اتخذت مع السؤل سبيلا، يا ويلتي! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، يا ليتني كنت ترابا! يا ليتني كنت نسيا منسيا يا ليت أمي لم تلدني) والقائلون ذلك المجرمون والكفار كما ورد التصريح بذلك في بعضها وفي بعضها بمناسبة السياق .

ويدل لذلك قوله (وعند ذلك تخطفك النيران والعياذ بالله، وينادي المنادي اخسئوا فيها ولا تكلمون، فلا يبقى سبيل إلى الصياح والأنين والتنفس والاستغاثة فكيف ترى الآن عقلك وهذه الأخطار بين يديك، فإن كنت غير مؤمن بذلك فما أطول مقامك مع الكفر في دركات جهنم وإن كنت) به (مؤمنا وعنه غافلا وبالاستعداد له متهاونا، فما أعظم خسرانك وطغيانك! وماذا ينفعك إيمانك إذا لم يبعثك على السعي في طلب رضا الله تعالى بطاعته وترك معاصيه، فلو لم يكن بين يديك الأهوال الصراط وارتياع قلبك من خطر الجواز عليه، وإن سلمت فناهيك به هولا وفزعا ورعبا، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يضرب الصراط بين ظهر) وفي لفظ: بين ظهراني (جهنم) أي: أجزائها (فأكون) أنا (أول من يجيز بأمته من الرسل) وفي لفظ: فأكون أنا وأمتي أول من يجوز.

(ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلم، اللهم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان) وهو نبت بالبادية شوكه مفرطح (هل رأيتم شوك السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: فإنهم مثل شوك السعدان) في الصورة والهيئة (غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تعالى، تختطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل) أي: يصير قطعا كالخردل (ثم ينجو) الحديث بطوله .

قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي هريرة في أثناء حديث طويل.. اهـ. قلت: أخرجاه من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد عن أبي هريرة، وعند مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة : ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم حتى يعجز أعمال العباد حتى يأتي الرجل لا يستطيع السير إلا زحفا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج ومكردس في النار . وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث: حفت النار بالشهوات، فالشهوات موضوعة على جوانبها؛ فمن اقتحم الشهوات سقط في النار. قاله ابن العربي، ويؤخذ من قوله: فمخدوش.. إلخ. أن المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة، ومتوسط بينهما مصاب، ثم ينجو. وفي حديث المغيرة عند الترمذي : شعار المؤمنين يومئذ على الصراط رب سلم رب سلم، ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به بل ينطق به الرسل يدعون للمؤمنين فيسمى ذلك شعارا لهم .

(وقال أبو سعيد الخدري) -رضي الله عنه- (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسك وكلاليب وخطاطيف تخطف الناس يمينا وشمالا وعلى جنبيه ) أي: على طرفي الجسر (ملائكة يقولون: اللهم سلم، فمن الناس من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس المجرى، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم من يزحف زحفا، فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون، وأما ناس فيؤخذون بذنوب وخطايا فيحترقون فيكونون فحما، ثم يؤذن في الشفاعة، وذكر إلى [ ص: 483 ] آخر الحديث) وتمامه: فيؤخذون ضبارات فينقذون على نهر من أنهار الجنة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، أما رأيتم الصبغاء، شجرة تنبت في الغثاء، فيكون في آخر من أخرج من النار رجل على شفتها، فيقول: يا رب اصرف وجهي عنها، فيقول: عهدك وذمتك لا تسألني غيرها، وعلى الصراط ثلاث شجرات، فيقول: يا رب حولني إلى هذه الشجرة آكل من ثمرها وأكون في ظلها، فيقول: عهدك وذمتك لا تسألني غيرها، ثم يرى أخرى هي أحسن منها فيقول: يا رب حولني إلى هذه آكل من ثمرها وأكون في ظلها، ثم يرى سواد الناس ويسمع كلامهم فيقول: يا رب أدخلني الجنة فيعطى الدنيا ومثلها .

قال العراقي : متفق عليه مع اختلاف ألفاظه. اهـ. قلت: هذا السياق تمامه لأحمد وأبي يعلى وابن حبان والحاكم، ولأحمد وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد وأبي هريرة معا: آخر من يخرج من النار رجلان، يقول الله -عز وجل- لأحدهما: يا ابن آدم ما أعددت لهذا اليوم؟ هل عملت خيرا قط؟ هل رجوتني؟ فيقول: لا يا رب إلا أني كنت أرجوك فترفع له شجرة . فساق الحديث نحو السياق المتقدم .

وروى مسلم من طريق جعفر بن عون، أخبرنا هشام بن سعيد، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فساق الحديث، وفيه: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: لتلحق كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد ما كان يعبد صنما ولا وثنا ولا صورة إلا ذهبوا يتساقطون في النار، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات أهل الكتاب، قال: ثم تعرض جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا، ثم يضرب الجسر على جهنم. قلنا: وما الجسر يا رسول الله؟ بأبينا وأمنا، قال: دحض مزلة له كلاليب وخطاطيف وحسك تكون بنجد يقال لها عقيقاء يقال له السعدان فيمر المؤمن كلمح البرق وكالطرف وكالريح وكالطير وكأجود الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم، فوالذي نفسي بيده ما أحد بأشد مناشدة في الحق يراه مضيئا له من المؤمنين في إخوانهم .

وأول الحديث عند البخاري : هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ هل تمارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ فإنكم ترونه كذلك، يحشر الله الناس يوم القيامة. فساق الحديث، وفيه: ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ثم ساقه كما ساق المصنف، وقال بعد قوله، ثم ينجو حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن يقول: لا إله إلا الله، فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود . الحديث بطوله، وفي آخره: حتى إذا انتهت به الأماني، قال الله -عز وجل-: لك مثل ذلك وعشرة أمثاله .. ورواه كذلك أحمد ومسلم، ورواه كذلك أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة إلا أن في حديث أبي هريرة : لك ذلك ومثله معه .

التالي السابق


الخدمات العلمية