إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
صفة الشفاعة .

اعلم أنه إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين ، فإن الله تعالى بفضله يقبل فيهم شفاعة الأنبياء والصديقين بل شفاعة العلماء والصالحين ، وكل من له عند الله تعالى جاه وحسن معاملة ، فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه ، فكن حريصا على أن تكتسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة ؛ وذلك بأن لا تحقر آدميا أصلا ؛ فإن الله تعالى خبأ ولايته في عباده ، فلعل الذي تزدريه عينك هو ولي الله ، ولا تستصغر معصية أصلا ؛ فإن الله تعالى خبأ غضبه في معاصيه ، فلعل مقت الله فيه ، ولا تستحقر أصلا طاعة فإن الله تعالى خبأ رضاه في طاعته ، فلعل رضاه فيه ولو الكلمة الطيبة أو اللقمة أو النية الحسنة أو ما يجري مجراه .

وشواهد الشفاعة في القرآن والأخبار كثيرة قال الله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى روى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقول عيسى عليه السلام إن تعذبهم فإنهم عبادك ثم رفع يديه وقال أمتي : أمتي ، ثم بكى فقال الله عز وجل يا جبريل : اذهب إلى محمد فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره ، والله أعلم به ، فقال : يا جبريل اذهب إلى محمد ، فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك .


* (صفة الشفاعة)

اعلم أنه قد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل من المذنبين النار، وتمسكوا بقوله تعالى: فما تنفعهم شفاعة الشافعين وقوله تعالى: ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع .

وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات في الكفار، قال القاضي عياض : مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلا ووجوبها سمعا؛ لصريح قوله تعالى: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا وقوله: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقوله: عسى أن [ ص: 486 ] يبعثك ربك مقاما محمودا المفسر بها عند الأكثرين كما سيأتي .

وقد جاءت الروايات من الأخبار التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين، وقد أشار المصنف إلى ذلك، فقال:

(اعلم أنه إذا حق دخول النار على طوائف من المؤمنين، فإن الله تعالى بفضله يقبل شفاعة الأنبياء والصديقين بل شفاعة العلماء والصالحين، وكل من له عند الله جاه وحسن معاملة، فإن له شفاعة في أهله وقرابته وأصدقائه ومعارفه، فكن حريصا على أن تكسب لنفسك عندهم رتبة الشفاعة؛ وذلك بأن لا تحقر آدميا أصلا؛ فإن الله تعالى خبأ ولايته في عباده، فلعل الذي تزدريه عينك هو ولي الله، ولا تستصغر معصية أصلا؛ فإن الله تعالى خبأ غضبه في معاصيه، فلعل غضب الله فيه، ولا تستحقر طاعة أصلا فإن الله تعالى خبأ رضاه في طاعته، فلعل رضا الله فيه) نقل هذا السياق عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، كما في القوت، وتقدم وساقه بأطول منه الزندويستي في كتابه روضة العلماء .

(ولو الكلمة الطيبة أو اللقمة) الصغيرة (أو النية الحسنة أو ما يجري مجراه وشواهد الشفاعة في القرآن والأخبار) المروية (كثيرة) ، ومن أدلها (ما قال الله تعالى) في كتابه العزيز عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا اتفق المفسرون على أن كلمة "عسى" من الله واجبة. قال أهل المعاني: لأن لفظ "عسى" تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه كان عارا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدا في شيء، ثم لا يعطيه ذلك .

فقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها: أنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: هو المقام الذي أشفع فيه، قال الفخر الرازي: اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودا إذ حمده حامد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقاما أنعم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه فحمدوه على ذلك الإنعام؛ وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم؛ لأن ذلك كان حاصلا في الحال، وقوله: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا يدل على أنه يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص من العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب ولا حاجة به إليها؛ لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا هو الشفاعة في إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة .

ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره فيجب حمل اللفظ عليه، وقال ابن الجوزي : الأكثر على أن المراد من المقام المحمود الشفاء، وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه .

القول الثاني في مقام الدعاء، كما في حديث حذيفة عند الطبراني، القول الثالث: مقام تحمد عاقبته وضعفهما الفخر، القول الرابع: هو إجلاسه -صلى الله عليه وسلم- على العرش أو على الكرسي، وقد روي ذلك عن ابن مسعود ومجاهد، وضعفه الواحدي جدا وبالغ في رده، وأجاب ابن عطية بقوله: وهو كذلك إذا حمل على ما يليق به، وقال الحافظ في الفتح: هو غير مدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر .

ومن شواهد الشفاعة قوله تعالى: ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) قال الحسن : هي الشفاعة. رواه ابن أبي الحاتم، وروى ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين : أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: أي والله، حدثني عمي محمد بن الحنفية عن علي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: أشفع لأمتي حتى يناديني ربي: رضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت، ثم أقبل علي فقال: إنكم لتقولون: يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا قلت: إنا لنقول كذلك قال: فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله ولسوف يعطيك ربك فترضى وهي الشفاعة، قلت: وإن أرجى آية في القرآن يا عبادي الذين أسرفوا الآية، قد رواه الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من حديث ابن مسعود، ولا تعارض بين القولين .

وقد ذكر السيوطي في الإتقان في أرجى آية في القرآن بضعة عشر قولا، وروى ابن جرير من طريق السدي عن ابن عباس قال في الآية: من رضا محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار . وعند البيهقي [ ص: 487 ] في الشعب من طريق سعيد بن جبير عنه بلفظ: رضاه أن تدخل أمته الجنة، وعند الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه قال: لا يرضى محمد وواحد من أمته في النار .

(وروى عمرو بن العاص) كذا في نسخ الكتاب، وصوابه: عبد الله بن عمرو ( أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- تلا قول إبراهيم -عليه السلام- رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم وقول عيسى -عليه السلام- إن تعذبهم فإنهم عبادك ثم رفع يديه وقال: أمتي أمتي، ثم بكى فقال الله -عز وجل-: اذهب إلى محمد فسله ما يبكيك؟ فأتاه فسأله فأخبره، والله أعلم به، فقال: يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) .

قال العراقي : ليس هو من حديث عمرو بن العاص وإنما هو من حديث ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص كما رواه مسلم، ولعله سقط من الإحياء ذكر عبد الله من بعض النساخ. قلت: رواه مسلم عن يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو فذكره ورواه اللالكائي في كتاب السنة من هذا الوجه .

التالي السابق


الخدمات العلمية