إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأعطيت الشفاعة وكل نبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة وقال صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر .

وقال صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق الأرض عنه وأنا أول شافع وأول مشفع بيدي لواء الحمد تحته آدم فمن دونه .


(وقال، صلى الله عليه وسلم: أعطيت خمسا) أي: من الخصال، قاله في تبوك آخر غزواته (لم يعطهن) الفعلان مبنيان للمفعول، والفاعل الله (أحد) من الأنبياء (قبلي) أي: لم تجتمع لأحد منهم، أو كل واحدة لم تكن لأحد منهم، فهي من الخصائص، وليست خصائصه منحصرة في الخمس بل هي تزيد عن ثلاثمائة كما بينه الأئمة، والتخصيص بالعدد لا ينفي الزيادة، ولا مانع من كونه اطلع أولا على البعض، ثم على البقية، فإن قيل: ذا إنما يتم لو ثبت تأخر الدال على الزيادة، قلنا: إن ثبت فذاك، والأجمل على أنه إخبار عن زيادة مستقبلا عبر عنه بالماضي تحقيقا لوقوعه .

(نصرت بالرعب) بالضم، الفزع أو الخوف مما يتوقع نزوله (مسيرة شهر) أي: نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعدائي من مسيرة شهر بيني وبينهم من سائر نواحي المدينة، وجعل الغاية إشارة إلى أنه لم يكن بين بلده واحد من أعدائه أكثر من شهر آنذاك فلا ينافي أن ملك أمته يزيد على ذلك بكثير، وهذه خصوصيته ولو بلا عسكر، وليس المراد بالخصوصية مجرد حصول الرعب بل هو من ينشأ عنه من الظفر بالعدو وفي اختصاص أمته بذلك احتمالات ربح أحدهم، منها أنهم رزقوا منها حظا وافرا، لكن ذكر ابن جماعة أنهم جاءوا في رواية أنهم مثله .

(وأحلت لي الغنائم) جمع غنيمة، اسم لما أخذ من الكفار بقهر وغيره فيعم الفيء؛ إذ كل منهما انفرد عن الآخر، والمراد بإحلالها له أنه جعل لها التصرف فيها كما شاء وقسمها كما أراد، والمراد اختصاصه بها هو وأمته دون الأنبياء؛ فإن منهم من لم يؤذن بالجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم المأذون الممنوع منها فتجيء نار فتحرقهم إلا الذرية ويرجح الثانية قوله (ولم تحل) يجوز بناؤه للفاعل وللمفعول (لأحد) من الأمم السابقة، وفائدة التقييد بقوله (قبلي) التنبيه على المخصص عليه من الأنبياء وأنه أفضلهم حيث خص بما لم يخصوا .

(وجعلت لي الأرض) زاد أحمد ولأمتي (مسجدا) أي: محل السجود ولو بغير مسجد فلا يختص بمحل، بخلاف الأمم السابقة، فإن الصلاة لا تصح منهم إلا في مواضع مخصوصة من ناحية بيعة أو كنيسة، فأبيحت الصلاة لنا بأي محل كان، ثم خص منه نحو حمام ومقبرة ومحل نجس على اختلاف المذاهب تحريما وكراهة .

(وترابها طهورا) وفي رواية أخرى: وتربتها لنا طهورا؛ أي: مطهر ومنهم من فسره أي: طاهر، إلا أن الخصوصية هنا في التطهير لا الطاهرية، واستدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره؛ لأن الطهور لو كان المراد به طاهرا لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها، وإنما فسر المسجد بقوله (فأيما رجل من أمتي) ، وفائدته بشارتهم بهذا الحكم التيسيري (أدركته الصلاة) أي صلاة كانت (فليصل) بوضوء أو تيمم. ذكر ذلك لدفع توهم أنه خاص به (وأعطيت الشفاعة) العامة والخاصة الخاصتان، فاللام للعهد أنه عهد اختصاص، والمراد المختصة به (وكل نبي بعث إلى قومه خاصة) وهو صريح في اختصاص عموم البعثة، واستشكل بآدم فإنه بعث لجميع بنيه، وكذا نوح بعد خروجه من السفينة، وأجيب بأجوبة، وأصحها أن المراد البعثة إلى الأصناف والأقوام وأهل الملل المختلفة وآدم ونوح ليسا كذلك .

(وبعثت إلى الناس عامة) وفي رواية لمسلم : كافة، بدل: عامة، والمراد: ناس في زمنهم، فمن بعدهم إلى يوم القيامة، ولم يذكر الجن؛ لأن الإنس أصل أو المقصود بالذات أو [ ص: 488 ] المتنازع فيه أو أكثر اعتناء أو أن الناس يشمل الثقلين، بل خبر: وأرسلت إلى الخلق، يفيد إرساله للملائكة كما عليه السبكي .

قال العراقي : متفق عليه من حديث جابر، قلت: رواية في الصلاة وغيرها، ورواه أيضا النسائي في الطهارة والدارمي وعبد بن حميد وأبو عوانة وابن حبان، ولفظهم جميعا: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت للناس عامة .

وروى أحمد والحكيم من حديث ابن عباس : أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرا: بعثت للناس كافة الأحمر والأسود، وكان النبي قبلي يبعث إلى قومه، ونصرت بالرعب أمامي مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى يبلغ محرابه، وأعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين مسيرة شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم، وكان النبي يبعث إلى خاصة قومه وبعثت أنا إلى الجن والإنس، وكانت الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله، وأمرت أن أقسمها في فقراء أمتي، ولم يبق نبي إلا أعطي سؤاله وأخرت شفاعتي لأمتي .

وروى الطيالسي وأحمد الدرامي وأبو يعلى وابن حبان والحاكم والضياء من حديث أبي ذر: أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، أرسلت إلى الأبيض والأسود والأحمر، وجعلت لي الأرض مسجدا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، ونصرت بالرعب فيرعب العدو وهو مني مسيرة شهر، وقيل لي: سل تعطه فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة منكم إن شاء الله تعالى من لقي الله -عز وجل- لا يشرك به شيئا .

وروى الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس : أعطيت خمسة لم يعطهن لي قبلي، أرسلت إلى الأحمر والأسود، وكان النبي يرسل إلى الناس خاصة، ونصرت بالرعب حتى إن العدو ليخافني مسيرة شهر أو شهرين، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وقيل لي: سل تعطه، فادخرت دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن مات لا يشرك بالله شيئا .

وروي أيضا من حديث ابن عمر : أعطيت خمسا لم يعطها نبي قبلي، بعثت للناس كافة الأحمر والأسود، وإنما كان يبعث كل نبي إلى قريته، ونصرت بالرعب، يرعب مني العدو مسيرة شهر، وأعطيت المغنم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي .

ورواه كذلك الحكيم في النوادر، وروى أحمد والطبراني في حديث ابن موسى: أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لنبي كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا وقد سأل شفاعة، وإني أخرت شفاعتي، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم من غير فخر ) قال العراقي : رواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي بن كعب . قال الترمذي : حسن صحيح، قلت: رواه كذلك أحمد وعبد بن حميد وأبو يعلى والروياني والحاكم والضياء .

(وقال صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم) في الدنيا والآخرة (ولا فخر) حال مؤكدة؛ أي: أقول هذا ولا فخر؛ أي: لا أفتخر بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة، وهذا قاله للتحدث بالنعمة وإعلاما للأمة ليعتقدوا فضله على جميع الأنبياء (وأنا من أول من تنشق الأرض عنه) وفي رواية: عن جمجمتي. أي: أول من يعجل الله إحياءه مبالغة في الإكرام وتعجيلا لجزيل الإنعام (وأنا أول شافع) يوم القيامة أو في الجنة لرفع الدرجات، وقد جاء في الخبر عند مسلم: أنا أول شافع في الجنة (وأول مشفع) بقبول شفاعته في أقسام الشفاعة له (بيدي لواء الحمد) أي: علمه يأوي تحته الأولون والآخرون وأضيف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن ذلك هو منصبه في ذلك الوقت دون غيره من الأنبياء (تحته آدم فمن دونه) .

قال العراقي : رواه الترمذي، وقال: حسن، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري . قلت: سياق المصنف رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن سلام إلا أنه قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر . والباقي سواء، وأما [ ص: 489 ] سياق حديث أبي سعيد عند الترمذي، فهو: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر .

ورواه كذلك أحمد وللترمذي من حديث أبي سعيد سياق آخر طويل أوله: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات . الحديث، وسيأتي تمامه، ورواه كذلك ابن خزيمة في الصحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية