إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم انظر إلى تفاوت الدركات ، فإن الآخرة أكبر درجات ، وأكبر تفضيلا ، فكما أن إكباب الناس على الدنيا يتفاوت فمن منهمك مستكثر كالغريق فيها ومن خائض فيها إلى حد محدود فكذلك تناول النار لهم متفاوت ، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة فلا تترادف أنواع العذاب على كل من في النار كيفما كان ، بل لكل واحد حد معلوم على قدر عصيانه ، وذنبه ، إلا أن أقلهم عذابا ، لو عرضت عليه الدنيا بحذافير لافتدى بها من شدة ما هو فيه ما هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة ، ينتعل بنعلين من نار ، يغلي دماغه من حرارة نعليه فانظر الآن إلى من خفف عليه ، واعتبر بمن ، شدد عليه .

ومهما تشككت في شدة عذاب النار فقرب إصبعك من النار ، وقس ذلك به ثم اعلم أنك أخطأت في القياس ، فإن نار الدنيا لا تناسب نار جهنم ولكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار ، عرف عذاب جهنم بها وهيهات ، لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها طائعين ، هربا مما هم فيه ، وعن هذا عبر في بعض الأخبار ، حيث قيل : إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة ، حتى أطاقها أهل الدنيا بل صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفة نار جهنم فقال : أمر الله تعالى أن يوقد على النار ألف عام حتى احمرت ، ثم أوقد عليه ألف عام حتى ابيضت ، ثم أوقد عليه ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة وقال صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها ، فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا ، فأذن لها في نفسين ، نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدونه في الصيف من حرها ، وأشد ما تجدونه في الشتاء من زمهريرها .

وقال أنس بن مالك يؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الكفار ، فيقال : اغمسوه في النار غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت نعيما قط فيقال ؟ : لا ، ويؤتى بأشد الناس ضرا في الدنيا ، فيقال : اغمسوه في الجنة غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت ضرا قط ؟ فيقول : لا وقال أبو هريرة لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون ، ثم تنفس رجل من أهل النار لماتوا .


(ثم انظر إلى تفاوت الدركات، فإن الآخرة أكبر درجات، وأكبر تفضيلا، فكما أن إكباب الناس على الدنيا يتفاوت) تفاوتا مختلفا، (فمن منهمك) عليها، (مستكثر) منها، (كالغريق فيها) ، لا يستفيق من انهماكه، (ومن خائض فيها إلى حد محدود) ، أي: معلوم، (فكذلك تناول النار لهم متفاوت، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة) ، أي: خيرا أو شرا، (فلا تترادف أنواع العذاب على كل من في النار كيف كان، بل لكل واحد حد معلوم) ، لا يتعدى (على قدر عصيانه، وذنبه، إلا أن أقلهم عذابا، لو عرضت عليه الدنيا بحذافيرها لافتدى به من شدة ما هو فيه) ، فقد روى أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، في أثناء حديث أنس، يقول الله تعالى لرجل من أهل النار: أتفتدي منه بطلاع الأرض ذهبا، فيقول: أي رب نعم، فيقول: قد كذبت... الحديث .

(قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أدنى أهل النار عذابا يوم القيامة، ينتعل بنعلين من نار، يغلي دماغه من حرارة نعليه ) . قال العراقي : متفق عليه، من حديث النعمان بن بشير، اهـ .

قلت: لفظ البخاري : إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان، يغلي منهما دماغه، كما يغلي الرجل بالقمقم . ولفظ مسلم : إن أهون أهل النار عذابا، من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا .

وروى الحاكم من حديث أبي هريرة : إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة، رجل يحذى له نعلان من نار، يغلي منهما دماغه . وروى مسلم [ ص: 513 ] من حديث ابن عباس : إن أهون أهل النار عذابا أبو طالب، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه .

وفي رواية مسلم، من حديث أبي سعيد، في حديث طويل، آخره: وأدنى أهل النار عذابا ينعل من نار بنعلين يغلي منهما دماغه، كأنه مرجل، مسامعه جمر، وأدراسه جمر، وأشفاره لهب النار، تخرج أحشاء جنبيه من قدميه، وسائرهم كالحب القليل في الماء الكثير، فهو يفور . وفي الصحيح من حديث أبي سعيد في حق أبي طالب : لعله تنفعه شفاعتي، فيجعل في ضحضاح من النار، يبلغ كعبيه، يغلي منه دماغه.

(فانظر الآن إلى من خفف عنه، واعتبر به، ومن شدد عليه، ومهما تشككت في شدة عذاب النار، فقرب أصبعك من النار، وقس ذلك به) ، كما كان يفعله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- والأحنف بن قيس، وقد تقدم .

(ثم اعلم أنك أخطأت في القياس، فإن نار الدنيا لا تناسب نار جهنم) ، ولا تقاربها، (ولكن لما كان أشد عذاب في الدنيا عذاب هذه النار، عرف عذاب جهنم بها) ، تقريبا للأذهان، (وهيهات، لو وجد أهل الجحيم مثل هذه النار لخاضوها طائعين، هربا مما هم فيه، وعن هذا عبر في بعض الأخبار، حيث قيل: إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة، حتى أطاقها أهل الدنيا) . قال العراقي : ذكره ابن عبد البر، من حديث ابن عباس، وهذه النار قد ضربت بماء البحر سبع مرات، ولولا ذلك ما انتفع بها. وللبزار من حديث أنس، بسند ضعيف: وما وصلت إليكم، حتى أحسبه قال: نفجت مرتين بالماء لتضيء لكم، اهـ .

قلت: قال الترمذي : حدثنا عباس بن محمد الدوري، أخبرنا عبيد الله بن موسى، أخبرنا شيبان، عن فراس، عن عطية، عن أبي سعيد، رفعه: ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، لكل جزء منها حرها . قال الترمذي : حسن غريب، وقال ابن ماجه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، ويعلى، قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن نفيع بن داود، عن أنس، رفعه: إن ناركم هذه جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، لولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها، وإنها لتدعو الله تعالى أن لا يعيدها فيها. رجاله ثقات إلا نفيع ابن الحارث، فإنه متروك، ورواه الحاكم مثله، وصححه .

وأخرج البيهقي في البعث مثله، من حديث أبي هريرة، من طريق سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عنه، وعن ابن مسعود، موقوفا، ورواه ابن مردويه، من حديث أبي هريرة، بلفظ: ولولا أنها ضربت في اليم سبع مرات، لما انتفع بها بنو آدم . وروى مالك في الموطإ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رفعه: نار بني آدم التي يوقدون، جزء من سبعين جزأ من نار جهنم، فقالوا: يا رسول الله، إن كانت لكافية، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزأ . وهو حديث صحيح، أخرجه البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك، ومسلم عن قتيبة، عن المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، ورواه أحمد، والبيهقي في البعث بمثله، وقوله: بتسعة وستين، قال العراقي في شرح التقريب: وقفت على نسخة صحيحة من المفهم بتسعة وتسعين، وعليها خط المصنف، وصوابه: وستين، فهو الذي في الحديث، ولعل التسعين سبق قلم من الناسخ، وما قيل: من أن المذكور أولا بالنسبة للقدر، والعدد، وثانيا بالنسبة للحد، غير متعين، والذي يظهر أن الكلام أولا وثانيا إنما هو بالنسبة للحد; ولهذا قال في الأول: جزء واحد من تسعين جزأ من حر جهنم، ولا يضر تأكيد الكلام، وتكرره، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر تفضيل جهنم في الحر بهذه الأجزاء، وقال الصحابة: إن حر نار الدنيا كان كافيا في العقوبة والانتقام، أكد النبي -صلى الله عليه وسلم- ما أخبر به أولا بعد سؤال الصحابة، وقال إنها فضلت عليها بهذا القدر في الجزاء، والله أعلم .

(بل صرح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصفة نار جهنم فقال: أمر الله تعالى أن يوقد على النار ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة) . قال البيهقي في الشعب: أخبرنا أبو الحسن ابن عبدان، حدثنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا الكديمي هو محمد بن يونس، حدثنا سهل بن حماد، حدثنا مبارك ابن فضالة، حدثنا ثابت البناني، عن أنس، قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الآية: وقودها الناس والحجارة فقال: أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة، قال: وبين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجل أسود، يهتف بالبكاء، فنزل جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد من هذا الباكي بين يديك؟ قال: رجل من الحبشة، وأثنى عليه معروفا، قال: فإن الله يقول: وعزتي وجلالي، وارتفاعي فوق عرشي، [ ص: 514 ] لا تبكي عين عبد في الدنيا من مخافتي إلا أكثرت ضحكها معي في الجنة . رجاله ثقات إلا الكديمي، ولأوله شاهد، قال يعقوب بن سفيان في مسنده: حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا يحيى بن أبي بكر، أخبرنا شريك، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رفعه: أوقدت النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة . أخرجه الترمذي، عن العباس به، وقال: لا نعلم أحدا رفعه إلا يحيى، عن شريك .

ثم رواه من طريق أخرى عن أبي هريرة موقوفا، وقال: هذا أصح، وأخرجه البيهقي في البعث، من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن علقمة، عن عاصم، عن أبي صالح، عن كعب، وقال: هذا أصح، فتبين بهذا أنه من الإسرائيليات، وروى مالك، عن عمه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه قال: أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون، إنها لأشد سوادا من القار . هذا موقوف صحيح، وأخرجه البيهقي في البعث، من طريق عبد العزيز بن سهيل، مرفوعا .

(وقال -صلى الله عليه وسلم- اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها في نفسين، نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشد ما تجدونه في الصيف من حرها، وأشد ما تجدونه في الشتاء من زمهريرها) . قال العراقي : متفق عليه، من حديث أبي هريرة، اهـ .

قلت: ورواه كذلك مالك، والشافعي، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وابن ماجه، وابن مردويه، بلفظ المصنف، وفي رواية لهم: فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير. ورواه الترمذي، وقال: حسن صحيح، بلفظ: فأما نفسها في الشتاء فزمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم. وروى عبد بن حميد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدث أن جهنم اشتكت إلى ربها، فنفسها في كل عام نفسين، فشدة الحر من حرها، وشدة البرد من زمهريرها.

(وقال أنس بن مالك ) -رضي الله عنه- (يؤتى بأنعم الناس في الدنيا من الكفار، فيقال: اغمسوه في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت نعيما قط؟ فيقول: لا، ويؤتى بأشد الناس ضرا في الدنيا، فيقال: اغمسوه في الجنة غمسة، ثم يقال له: هل رأيت ضرا قط؟ فيقول: لا) . رواه أحمد، وعبد بن حميد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وأبو يعلى، من حديث أنس، مرفوعا، بلفظ: يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط . ولما لم يصرح المصنف برفعه، لم يتعرض له العراقي بالتخريج، وهو واجب التنبيه .

(وقال أبو هريرة ) -رضي الله عنه- (لو كان في المسجد مائة ألف أو يزيدون، ثم تنفس رجل من أهل النار لماتوا) . وهذا أيضا ذكره موقوفا، وهو مرفوع من حديثه، رواه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي في البعث، بلفظ: لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيه رجل من أهل النار فتنفس، فأصابهم نفسه لأحرق المسجد ومن فيه .

وروى الديلمي من حديث أبي سعيد : لو أخرج رجل من أهل النار، ثم أقيم بالمشرق، وأقيم رجل بالمغرب، لمات ذلك الرجل من نتن ريحه . وروى ابن مردويه، عن الحسن، عن أبي هريرة الأسلمي من قوله بنحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية