إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الأصل العاشر .

أن الله سبحانه قد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين .


(الأصل العاشر)

في إثبات نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: اعلم (أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم) إلى الخلق أجمعين بالهدى ودين الحق، والمراد من الخلق: المخلوق; لأن إرساله إلى من يعقل من الجن والإنس، قال بعض العلماء: وإلى الملائكة. نقل ذلك التقي السبكي، وصرح الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: ليكون للعالمين نذيرا ، بعدم دخول الملائكة في عموم من بعث صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم اعلم أن العلم بثبوت الشيء فرع تصور ذلك الشيء، وتصور ذلك الشيء إن كان بحسب اسمه فلا يتوقف على وجوده، وإن كان بحسب حقيقته وماهيته فيتوقف على وجوده، والتصديق المفروض هو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله، المفهوم من سياق المصنف، ولا بد لحصول هذا من العلم بوجود هذا الموضوع وتعيينه; إذ هو شخص، وتصور الشخص إنما هو بتعييناته الشخصية، فلا بد من الكلام على ما به يتعين شخصا، وذلك بالاستقراء من حيث نسبه ومولده ووفاته وزمانه وأسمائه الموجبة لشهرته، وشمائله التي امتاز بها عن غيره، فإذا كان كذلك فلا بد من ذكر ذلك على الإيجاز والاختصار; ليكمل المعتقد من كل الوجوه، وقد ذكر القرافي في ذخيرته، وأشار إليه في شرح الأربعين، أن جميع الأحوال المتعلقة بالرسول كلها - فضلا عما به يتعين- ترجع إلى العقائد، لا إلى العمل، فيجب البحث عن ذلك لتحصيل كمال المعتقد بذلك، أما وجوده صلى الله عليه وسلم فمعلوم بالضرورة تواترا عند أهل البرهان، وكشفا عند أولي العيان; فإن الصوفي يقول: العلم بوجوده صلى الله عليه وسلم من قبيل المحسوسات المرئية بالأبصار يقظة عند المقربين، ونوما عند غيرهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من رآني فقد رآني حقا; فإن الشيطان لا يمثل بصورتي"، إذ معنى الحديث عند الأكثر: من رآه نوما؛ فتلك الرؤية مساوية للرؤية الحسية يقظة، بل معنى، كما نبه عليه علماء الحديث، فانظره .

وأما تعيينه: فإما من حيث نسبه فهو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وإليه انتهى النسب الصحيح، وما فوق عدنان فمختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وكنيته صلى الله عليه وسلم أبو القاسم، وهو الأشهر، وأمه آمنة ابنة وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهنا تجتمع مع أبيه في النسب.

وأما مولده صلى الله عليه وسلم: أما من حيث المكان فهو مكة، بإجماع ، في شعب أبي طالب.

وأما من حيث الزمان فيوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وذلك بعد قدوم الفيل بشهر، وقيل: بأربعين يوما، وقيل: بخمسين يوما، ومات والده عنه صلى الله عليه وسلم وهو حمل، وقيل: ابن سبعة أشهر. والأول الصحيح، وماتت أمه بالأبواء ولم يستكمل له سبع سنين، وكفله جده عبد المطلب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، وبعث صلى الله عليه وسلم لثمان مضين من شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة. وقيل: عشر سنين. والأول أشهر، وقدم المدينة يوم الاثنين، وهو الثاني من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين من عام الفيل، ومكث بها عشر سنين، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة في بيت عائشة رضي الله عنها يوم نوبتها يوم الاثنين أول يوم من شهر ربيع الأول، ودفن ليلة الأربعاء .

وأما صفته صلى الله عليه وسلم وشمائله الزكية [ ص: 202 ] فليس بالطويل البائن، ولا بالقصير المتردد، ولا بالأبيض الأمهق، ولا الآدم، ولا بالجعد القطط، ولا بالسبط، كان رجل الشعر، أزهر اللون، مشربا بحمرة في بياض، كان وجهه القمر، حسن العنق، ضخم الكراديس، أهدب الأشفار، أدعج العينين، حسن الثغر، ضليع الفم، حسن الأنف، إذا مشى يتكفأ، كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت معا، جل نظره إلى الأرض، كانت له جمة لم تبلغ شحمة أذنيه صلى الله عليه وسلم .

وأما أسماؤه صلى الله عليه وسلم فهي كثيرة، بلغت ألفا، وقد ألف الحافظ ابن دحية في ضبطها كتابا سماه المستوفي، فيه مقنع لمن أراد التطلع بها، والمنقول توقيفا فقد روى مالك وغيره رفعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب"، ومن أسمائه في القرآن: طه، ويس، والمدثر، والمزمل، وعبدالله، والرؤوف، والرحيم، ومن أسمائه أيضا المقفي، ونبي التوبة، ونبي الملاحم، والمتوكل صلى الله عليه وسلم تسليما .

ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: ونعتقد أنه صلى الله عليه وسلم أرسله الله تعالى (خاتما للنبيين) ، وهذا مما أجمع عليه أهل السنة، وثبت بالكتاب والسنة، فالكتاب قوله تعالى: ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، والسنة فما روي: "وإني لخاتم النبيين وآدم منجدل بين الماء والطين"، وفي الصحيحين: "إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارا فكملها وأحسنها، وترك فيها موضع لبنة، فصار يقال: ما أحسنها لو تمت! فأنا اللبنة التي تم بها بناء الأنبياء". ويروى أيضا: "لا نبي بعدي"; فقد جاء حديث الختم من طرق كثيرة بألفاظ مختلفة والإجماع; فقد اتفقت الأمة على ذلك، وعلى تكفير من ادعى النبوة بعده، وبه يستدل المحدث، وأما الصوفي فيقول بذلك، ويزيد بما يعطيه ذوقه، ويشير إليه وجده، ويلوح بأن بعثته صلى الله عليه وسلم جامعة لمعاني العلو بالظهور على ما هو فوق ذلك بإحاطته بكلية الكون، أعلاه وأدناه، وأوله وآخره، وكان له حظ من نبوة كل نبي، فكان بنبوته الجامعة لخصوص أحوال الأنبياء بمنزلة الفطرة الإنسانية الجامعة لخصوص أحوال الحيوان، فكانت إحاطته بنبوته بظهور كمال كلية الأمر; فلم يبق وراءه أعلى، فانجمعت طرفا سلسلة النبوة والرسالة، فكان خاتما لا نبي بعده; إذ لا مرقى وراء أمره، وهذا هو حقيقة الختم .

(تنبيه)

يقال: خاتم بفتح التاء، وبكسرها، وقد قرئ بهما، فالفتح بمعنى الختام والانتهاء، والمعنى أنه انتهاء النبيين، فهو كالخاتم والطابع الذي يكون عنده الانتهاء، وإذا كان انتهاء النبيين كان انتهاء المرسلين; لما تقدم من أن كل رسول نبي، ورفع الأعم يستلزم رفع الأخص، والكسر بمعنى أنه ختمهم، أي: جاء آخرهم، فلم يبق بعده نبي، وبالجملة فبه انتهت النبوة والرسالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية