إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم بكيفية العمل فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم ، فهو إذن أفضل الأعمال وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضا بشرف ثمرته وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى .

هذا في الآخرة وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتمييز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها هذه فضيلة العلم مطلقا ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه ، وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها .


(ولا يتوصل إلى العمل أيضا إلا بالعلم بكيفية العمل) فصار العمل متوقفا على العلم أيضا بهذا الاعتبار (فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذا أفضل الأعمال) .

واعلم أن السعادة الحقيقية هي الخيرات الأخروية، وما عداها فتسميته بذلك إما لكونه معاونا في بلوغ ذلك، أو نافعا فيه، فكل ما أعان على خير سعادة .

والأشياء التي هي نافعة ومعينة في بلوغ السعادة الأخروية متفاوتة الأحوال، فمنها ما هو نافع في جميع الأحوال، وعلى كل وجه، ومنها ما هو نافع في حال دون حال وعلى وجه دون وجه، وربما يكون ضره أكثر من نفعه، فحق الإنسان أن يعرفها بحقائقها حتى لا يقع الخطأ عليه في اختياره الوضيع على الرفيع، وتقديمه الخسيس على النفيس .

(وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضا بشرف ثمرته) ونتيجته (وقد عرفت أن ثمرة العلم) عظيمة شريفة، هي (القرب من الله تعالى) وفي نسخة: من رب العالمين، أي: في دار كرامته مع المشاهدة بالنظر (والالتحاق بأفق الملائكة) ويشير إليه ما تقدم في الحديث: "أنتم كبعض ملائكتي اشفعوا فيشفعون" (ومقارنة الملأ الأعلى) مع الملائكة حول العرش (هذا في الآخرة وأما الدنيا فالعز) والسعادة (والوقار) وهو الحلم والرزانة (ونفوذ الحكم) أي: إجراؤه (على الملوك) فضلا عن غيرهم، وقد تقدم أن العلم حاكم وما عداه محكوم عليه، ولا يقطع النزاع إلا بالعلم .

وقد شوهد من أحوال السلف من العلماء العارفين كأبي حازم وسفيان والفضيل، ومن بعدهم كالعز بن عبد السلام [ ص: 126 ] وأضرابه مع ملوك زمانهم ما هو أشهر من أن يذكر .

(ولزوم الاحترام) والتعظيم (في) أصل (الطباع) مركوزا ذلك فيها (حتى إن أغبياء) جمع غبي (الترك) بالضم، قوم معروفون، غباوتهم في أصل جبلتهم لا توصف (وأجلاف العرب) الذين لا يشهدون المدن والحضر، ويتبعون مساقط الغيث، وأذناب الأنعام، كما أن الترك لمجاورتهم الجبال الشواهق، وبعدهم عن المدن صاروا أغبياء، كذلك العرب بذلك صاروا أجلافا، لكنهم مع ذلك (يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير) والتعظيم (لشيوخهم) وكبارهم (لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة) ولو لم يستفيدوا من الكتب والشيوخ بالتلقين، فتراهم يصغون إلى كلامهم، ويعملون بما يأمرونهم في القضايا والحوادث (بل البهيمة بطبعها) مع حيوانيتها (توقر الإنسان) وتحتشمه بعض الاحتشام، وتنزجر عنه بعض الانزجار (لشعورها) وعلمها (بتميز الإنسان) عن غيره (بكمال مجاوز لدرجتها) .

وهذا الكلام بعينه يأتي للمصنف في باب العقل، والعقل والعلم من واد واحد؛ لإطلاق كل واحد منهما على الآخر، مع فرق سيذكر فيما بعد، وأيضا فإن العلم ثمرة العقل، فما جاز على العقل جاز على العلم .

(وهذه فضيلة العلم مطلقا ثم تختلف العلوم) بانقسامها إلى ما يحمد ويذم (كما سيأتي بيانه، وتتفاوت لا محالة فضائلها بتفاوتها) في درجاتها .

التالي السابق


الخدمات العلمية