صفحة جزء
والطائفة التي ظنت أن الأدلاء لم يقصدوا بكلامهم الدلالة والإفهام والإرشاد إلى سبيل الرشاد، صار كل منهم يستدل بنظره واجتهاده، فاختلفوا في الطرق وتشتتوا، فمنهم من سلك طرقا أخرى غير طريق مكة، فأفضت بهم إلى أودية مهلكة، ومفاوز متلفة، وأرض متشعبة - فأهلكتهم.

وطائفة أخرى شكوا وحاروا، فلا مع الأدلاء سلكوا فأدركوا المقصود، ولا لطرق المخالفين للأدلاء ركبوا وسلكوا، بل وقفوا مواقف التائهين الحائرين، حتى هلكوا أيضا في أمكنتهم جوعا وعطشا،، كما هلك [ ص: 367 ] أرباب الطرق المتشعبة فلم يظفروا بالمطلوب، ولا نالوا المحبوب، بل هلكوا هلاك الخاسر الحائر.

وآخرون اختصموا فيما بينهم فصار هؤلاء يقولون: الصواب فيما ذكره الأدلاء، ونطق به هؤلاء الخبراء، وآخرون يقولون: بل الصواب مع هؤلاء الذين يقولون: إنهم أخبر وأحذق، وكلامهم في الدلالة أبين وأصدق، وآخرون حاروا مع من الصواب، ووقفوا موقف الارتياب، فاقتتل هؤلاء وهؤلاء، وخذل الواقفون الحائرون لهؤلاء وهؤلاء، ولكن فاتت باختلاف أولئك مصالح دينهم ودنياهم، فهلك الحجيج وكثر الضجيج، وعظم النشيج، واضطربت السيوف، وعظمت الحتوف، وتزاحف الصفوف، وحصل من الفتنة والشر والفساد، ما لا يحصيه إلا رب العباد.

فهل من فعل هذا بالحجيج يكون قد هداهم السبيل، وأرشدهم إلى اتباع الدليل؟ أم يكون مفسدا عليهم دينهم ودنياهم، فاعلا بهم ما لا يفعله إلا أشد عداهم؟ وإذا قال: إنما قصدت بذلك أن يجتهد الحجاج في أن يعرفوا الطريق بعقولهم وكشوفهم، ولا يستدلوا بكلام الأدلاء الذين أرسلتهم لتعريفهم، لينالوا بذلك أجر المجالدين، وتنبعث هممهم إلى طريق المجادلين-هل يصدقه في ذلك عاقل؟ أو يقبل عذره من عنده حاصل؟ .

فهذا مثال ما يقوله النفاة في رسل الله، الذين أرسلهم الله تعالى إلى الخلق ليعلموهم ويهدوهم سبيل الله، ويدعوهم إليه، كما قال تعالى: [ ص: 368 ] كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [سورة إبراهيم: 1] .

وقال تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [سورة الأحزاب: 45-46] .

وقال تعالى: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور [سورة الشورى: 52-53] وأمثال ذلك.

فجعل هؤلاء الجهاد في إفساد سبيل الله جهادا في سبيل الله، والاجتهاد في تكذيب رسل الله اجتهادا في تصديق رسل الله، والسعي في إطفاء نور الله سعيا في إظهار نور الله، والحرص على أن لا تصدق كلمته، ولا تقبل شهادته، أو لا تفيد دلالته، سعيا في أن تكون كلمة الله هي العليا، والمبالغة في طريق أهل الإشراك بالله والتعطيل مبالغة في طريق أهل التوحيد، السالكين سواء السبيل، فقلبوا الحقائق، وأفسدوا الطرائق، وأضلوا الخلائق.

وهذه المعاني وأمثالها - وأعظم منها - يعرفها كل من فهم لوازم أقوال هؤلاء المبدلين المعطلين، وإن كان قد التبس كثير من كلامهم على من لا يعرف لا الحق ولا نقيضه، بل صار حائرا، حتى أنك تجد كثيرا ممن عنده علم وفقه، وعبادة وزهد، وحسن قصد، وقد ضرب في العلم والدين بسهم وافر، وهو لا يختار أن ينحاز عن المؤمنين بالله واليوم الآخر، فيسمع كلام الله وكلام رسوله، وأهل العلم والإيمان، [ ص: 369 ] وكلام أهل الزندقة والإلحاد، الذين سعوا في الأرض بالفساد، فيؤمن بهذا وهذا إيمانا مجملا، ويصدق الطائفتين، أو يعرض عنهما، فلا يدخل في تحقيق طريق هؤلاء ولا هؤلاء، بمنزلة من سمع كلام محمد بن عبد الله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وكلام مسيلمة الكاذب الكافر، ولم يفهم ما بينهما من التناقض والاختلاف، فصار يصدق هذا وهذا، ويقر كلا منهما، على ما قاله، ويسلم إليه حاله، ويقول: هذا رسول الله، وهذا رسوله.

لكن هؤلاء لا يمكنهم التظاهر بين المسلمين بإظهار رسالة غير محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن يقولون: ما هو بمعنى الرسالة أو أبلغ منها، فيقولون: هذا كلام رسول الله، وهذا كلام أولياء الله، بل كلام خاتم الأولياء، وهذا كلام العارفين المحققين، وكلام العقلاء وأهل البراهين، وكلام النظار المحققين، ونحن نسلم هذا وهذا، ففضلاؤهم الذين يفهمون التناقض، هم في الباطن مع أعداء الرسول، وإليهم أميل.

وهم عندهم أهل التحقيق والتبيين بحقيقة الطريق.

التالي السابق


الخدمات العلمية