صفحة جزء
وإن قالوا: ما علمنا بالاضطرار أن الرسول أراده أقررنا به، ولم نجوز أن يكون في العقل ما يناقضه، وما علمه غيرنا لم نقر به، وجوزنا أن يكون في العقل [ ص: 184 ] ما يناقضه ـ أمكن تلك الطائفة أن تعارضهم بمثل ذلك، فيقولون: بل نحن نقر علمنا الضروري، ونقدح في علمكم الضروري بنظرياتنا.

وأيضا، فمن المعلوم أن من شافهه الرسول بالخطاب يعلم من مراده بالاضطرار ما لا يعلمه غيره، وأن من كان أعلم بالأدلة الدالة على مراد المتكلم كان أعلم بمراده من غيره، وإن لم يكن نبيا فكيف بالأنبياء؟.

فإن النحاة أعلم بمراد الخليل وسيبويه من الأطباء، والأطباء أعلم بمراد أبقراط وجالنيوس من النحاة، والفقهاء أعلم بمراد الأئمة الأربعة وغيرهم من الأطباء [ ص: 185 ] والنحاة، وكل من هذه الطوائف يعلم بالاضطرار من مراد أئمة الفن ما لا يعلمه غيرهم، فضلا عن أن يعلمه علما ضروريا أو نظريا.

وإذا كان كذلك فمن له اختصاص بالرسول، ومزيد علم بأقواله وأفعاله ومقاصده، يعلم بالاضطرار من مراده ما لا يعلمه غيره، فإذا جوز لمن يحصل له هذا العلم الضروري أن يقوم عنده قاطع عقلي ينفي ما علمه هؤلاء بالاضطرار لزم ثبوت المعارضة بين العلوم النظرية والضرورية، وأنه يقدم فيها النظرية، ومعلوم أن هذا فاسد.

فتبين أن قول هؤلاء يستلزم من تناقضهم وفساد مذاهبهم وتكذيب الرسل ما يستلزم من الكفر والجهل، وأنه يستلزم تقديم النظريات على الضروريات، وذلك يستلزم السفسطة التي ترفع العلوم الضرورية والنظرية.

التالي السابق


الخدمات العلمية