صفحة جزء
وابن رشد هذا، مع خبرته بكلام هؤلاء وموافقته لهم، يقول: إن جميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، وقرر ذلك بطريق عقلية من جنس تقرير ابن كلاب والحارث المحاسبي، وابن العباس القلانسي، والأشعري، [ ص: 243 ] والقاضي أبي بكر، وأبي الحسن التميمي، وابن الزاغوني، وأمثالهم ممن يقول إن الله فوق العرش وليس بجسم.

وقال هؤلاء المتفلسفة كما يقوله هؤلاء المتكلمون الصفاتية: إن إثبات العلو لله لا يوجب إثبات الجسمية، بل ولا إثبات المكان، وبناء ذلك على أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي للسطح الظاهر من الجسم المحوي، وهذا قول أرسطو وأتباعه، فهؤلاء يقولون: مكان الإنسان هو باطن الهواء المحيط به، وكل سطح باطن من الأفلاك فهو مكان للسطوح الظاهرة مما يلاقيه.

ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم باطن يحوي شيئا، فلا مكان هناك على اصطلاحهم، إذ لو كان هناك محوى لسطح الجسم لكان الحاوي جسما، وإذا كان كذلك فالموجود هنالك لا يكون في مكان ولا يكون جسما، ولهذا قال: "فإذا [إن] قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون غير جسم، فالذي يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم، لا وجود ما ليس بجسم".

[ ص: 244 ] فقرر إمكان ذلك كما قرر إثباته، كما ذكره من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس.

والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة أن يقولوا له: لا يمكن أن يوجد هناك شيء: لا جسم ولا غيره، أما الجسم فلما ذكره، وأما غيره فلأنه يكون مشارا إليه بأنه هناك، وما أشير إليه فهو جسم.

وهذا كما يقوله المعتزلة للكلابية وقدماء الأشعرية ومن وافقهم من أهل الحديث كالتميميين وأمثالهم وأتباعهم، فيقول ابن رشد لهم ما تقوله الكلابية للمعتزلة، وهو أن وجود موجود ليس هو وراء أجسام العالم ولا داخل فيها، إما أن يكون ممكنا وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم، وإن كان ممكنا فوجد موجود هو وراء أجسام العالم وليس الجسم أولى بالجواز، لأنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود قائم بنفسه، لا في العالم ولا خارجا عنه، ولا يشار إليه، وعرضنا عليه وجود موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم، كان إنكار العقل للأول [ ص: 245 ] أعظم من إنكاره للثاني، فإن كان الأول مقبولا وجب قبول الثاني، وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول، فلا يمكن منازعو هؤلاء أن يبطلوا قولهم مع إثباتهم لموجود قائم بنفسه، لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه.

وما ذكره ابن رشد من أن هذه الصفة صفة العلو لم يزل أهل الشريعة في أول الأمر يثبتونها لله تعالى حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية - كلام صحيح، وهو يبين خطأ من يقول: إن النزاع في ذلك ليس إلا مع الكرامية والحنبلية، وكلامه هذا أصح مما زعمه ابن سينا حيث ادعى أن السنن الإلهية منعت الناس عن شهرة القضايا التي سماها "الوهميات" مثل أن: كل موجود فلا بد أن يشار إليه، فإن تلك السنن ليست إلا سنن المعتزلة والرافضة والإسماعيلية ومن وافقهم من أهل البدع ليست سنن الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.

وما نقله ابن رشد عن هذه الأمة فصحيح، وهذا مما يرجح أن نقله لأقوال فلاسفة أصح من نقل ابن سينا. لكن التحقيق أن الفلاسفة في هذه المسألة على قولين، وكذلك في مسألة ما يقوم بذاته من الأفعال وغيرها من الأمور، للفلاسفة في ذلك قولان.

[ ص: 246 ] والرازي إذا قال: "اتفق الفلاسفة" فإنما عنده ما في كتب ابن سينا وذويه. وكذلك الفلاسفة الذين يرد عليهم أبو حامد إنما هم هؤلاء.

ولا ريب أن مسائل الإلهيات والنبوات ليس لأرسطو وأتباعه فيها كلام طائل. أما النبوات فلا يعرف له فيها كلام، وأما الإلهيات فكلامه فيها قليل جدا. وأما عامة كلام الرجل فهو في الطبيعيات والرياضيات، ولهم كلام في الروحانيات من جنس كلام السحرة والمشركين. وأما كلامهم في واجب الوجود بنفسه، فكلام قليل جدا مع ما فيه من الخطأ، وهم لا يسمونه واجب الوجود، ولا يقسمون الوجود إلى واجب وممكن، وإنما فعل هذا ابن سينا وأتباعه، ولكن يسمونه المحرك الأول والعلة الأولى، كما قد بسطت أقوالهم في موضع آخر.

وعلم ما بعد الطبيعة عندهم هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه، وتلك أمور كلية عامة مطلقة تتناول الواجب وغيره. وبعض كلامهم في ذلك خطأ وبعضه صواب، وغالبه تقسيم لأجناس الجواهر والأعراض، ولهذا كانوا نوعين: نوعا نظارين مقسمين للكليات، ونوعا متألهين بالعبادة والزهد على أصولهم، أو جامعين بين الأمرين، كالسهروردي والمقتول، وأتباع ابن سبعين، وغيرهم.

[ ص: 247 ] وأما كلامهم في نفس العلة الأولى فقليل جدا، ولهذا كانوا على قولين: منهم من يثبت موجودا واجبا مباينا للأفلاك، ومنهم من ينكر ذلك، وحجج مثبتي ذلك على نفاته منهم حجج ضعيفة، وقدماؤهم كأرسطو كانوا يستدلون بأنه لا بد للحركة من محرك لا يتحرك، وهذا لا دليل عليه، بل الدليل يبطله.

التالي السابق


الخدمات العلمية