صفحة جزء
وأما الوجه الرابع، فقوله: "العقل يتصور النفي والإثبات، ثم يحكم بتناقضهما، مع أنه لا يحكم بكون أحدهما ساريا في الآخر، أو مباينا عنه في الجهة".

فجوابه من وجوه:

أحدها: أن ما يتصوره العقل من النفي والإثبات: إما أن يكون معينا أو مطلقا. فإن كان إثبات معين ونفيه، كان تصوره تبعا لذلك المعين، فإذا كان ذلك المعين محايثا لغيره أو مباينا، كان تصوره كذلك، فإذا كان العقل يجزم بانتفاء وجود موجودين لا متباينين ولا متحايثين، نفى الثالث، وإن تصور النفي المطلق والإثبات المطلق، كان هذا من القضايا العامة الكلية، والكليات وجودها في الأذهان لا في الأعيان. وقد تقدم أن الكلام إنما هو في الوجود الخارجي لا الذهني.

الثاني: أن يقال: لا نسلم أنه لا يحكم بكون أحدهما محايثا للآخر، بل تصوره للنفي والإثبات محله الذهن، وتصور أحدهما هو حيث هو تصور الآخر، ولا نعني بالمحايثة إلا هذا.

الوجه الثالث: أن يقال: هو عبر عن قول هؤلاء بعبارة لا يقولونها، فإنهم لا يقولون: إن كل موجودين لا بد أن يكون أحدهما ساريا في الآخر أو مباينا عنه، فإن الأعراض المجتمعة في محل واحد ليس كل منها مباينا للآخر. ولا يقال: إن العرض سار في العرض، بل يقال: إن الأعراض سارية في المحل. اللهم إلا أن يعبر معبر بلفظ [ ص: 283 ] السريان عن كون أحد العرضين بحيث هو الآخر، فإن هذا قد يسمى محايثة ومداخلة ومجامعة ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فتصور النفي وتصور الإثبات يجتمعان، كما تجتمع سائر التصورات، والتصورات محلها كلها محل العلم من الإنسان، وهذه كلها متحايثة متجامعة قائمة بمحل واحد.

التالي السابق


الخدمات العلمية