صفحة جزء
والمقصود هنا أن هؤلاء النفاة لا يمكنهم إقامة حجة على غلاة المجسمة الذين يصفونه بالنقائص، حتى الذين يقولون ما يحكى عن بعض اليهود أنه بكى على الطوفان حتى رمد، وأنه عض يده حتى جرى منه الدم ندما، ونحو ذلك من المقالات التي هي من أفسد المقالات وأعظمها كفرا، ليس مع هؤلاء النفاة القائلين بأنه بداخل العالم ولا خارجه حجة عقلية يبطلون بها مثل هؤلاء الأقوال الباطلة، فكيف بما هو دونها من الباطل، فكيف بالأقوال الصحيحة؟

[ ص: 349 ] وذلك أن عمدتهم على أن هذه الصفات تستلزم التجسيم وهو باطل، وعمدتهم في نفي التجسيم على امتناع اتصافه بالصفات، ويسمونه التركيب، أو على حدوث الجسم الذي مبناه على أن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وعلى أن ما اختص بشيء فلا بد له من مخصص، من غير فرق بين الواجب بذاته القديم الأزلي وبين غيره، مع العلم بأنه لا بد للموجود الواجب من حقيقة يختص بها يتميز بها عما سواه، وأن ما اختصت به حقيقته يمتنع أن يكون لها مخصص، كما يمتنع أن يكون لوجوده الواجب موجب، أو لعلمه معلم، أو لقدرته مقدور، ونحو ذلك.

وإذا كان كذلك فهؤلاء يقولون لك: الاختصاص بالحيز والجهة إنما كان لكون المختص بها قائما بالنفس، فيكون كل قائم بنفسه مختصا بالحيز والجهة. ويقولون: إن عنيت أن كل مختص بجهة إنما اختص بجنس الحيز والجهة لذاته المخصوصة، فقد ظهر بطلان ذلك.

وإن قلت: إنما اختص بالجهة المخصوصة والحيز المخصوص لذاته المخصوصة، لم ينازعوك في ذاك، بل يقولون: الاختصاص بجنس الجهة والحيز كان لجنس القيام بالنفس، فجنس الاختصاص لازم لجنس القيام بالنفس، فكل قائم بنفسه مختص بحيز وجهة، فقد تبين أن كونه متحيزا ذا جهة لازم لعموم كونه جسما، لا لخصوص جسم معين.

وحينئذ فإذا قلت: كما أن الاختصاص بالجهة والحيز من لوازم القيام بالنفس، فهو مستلزم لكونه جسما.

قالوا لك: ونحن نقول بذلك.

[ ص: 350 ] وكذلك إذا قلت لهم: كما لا تعقلون قائما بنفسه إلا مختصا بجهة وحيز، فلا تعقلون قائما بنفسه إلا جسما.

قالوا لك: ونحن نقوم بذلك.

فإذا شرعت معهم في نفي الجسم، كان لهم طريقان: أحدهما: أن يقولوا: هذا قدح في الضروريات بالنظريات: فلا نقبله، كما تقدم.

والثاني: أن يبينوا بطلان أدلة النافية للتجسيم، وأن تعترف ببطلانها.

فأنت في غير موضع من كتبك، ومن تقدمك، كالغزالي وغيره، تبينون فساد حجج المتكلمين على أن كل جسم محدث، وتقدحون فيها بما لا يمكن إبطاله، كما فعلت في "المباحث المشرقية" و"المطالب العالية"، بل كما فعل من بعدك الآمدي والآرموي وغيرهما، وأنتم في مواضع أخر تقدحون في حجج من احتج على أن الجسم مركب، وكل مركب فهو مفتقر بذاته، وتقدحون في أدلة الفلاسفة التي احتجوا بها على إمكان كل مركب، كما فعل ذلك الغزالي في "تهافت الفلاسفة" وكما فعله الرازي والآمدي وغيرهما.

وهذه الحجة - وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مشارا إليه، وأنه فوق العالم - لما كانت حجة عقلية لا يمكن مدافعتها، وكانت مما ناظر به الكرامية لأبي إسحاق الإسفراييني، فر أبو إسحاق وغيره إلى إنكار كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول، [ ص: 351 ] وقال: لا أسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه غني عن المحل، فجعل قيامه بنفسه وصفا عدميا لا ثبوتيا، وهذا لازم لسائرهم.

ومعلوم أن كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره، فإذا كان العرض القائم بغيره يمتنع أن يكون عدميا، فقيام الجسم بنفسه أبلغ في الامتناع، وإذا كان المخلوق قائما بنفسه، فمعلوم أن هذه صفة كمال تميز بها الجسم عن العرض، فخالق الجميع كيف لا يتصف إلا بهذه الصفة الكمالية؟

بل لا يكون قائما بنفسه ولا بغيره إلا بمعنى عدمي، فيكون المخلوق مختصا بصفة موجودة كمالية، والخالق لا يتصف إلا بالأمر العدمي، فيكون المخلوق متصفا بصفة كمال وجودية، والخالق مختصا بالأمر العدمي، والعدم لا يكون قط صفة كمال إلا إذا تضمن أمرا وجوديا، فما ليس بوجود ولا كمال في الوجود فليس بكمال، فإن لم يكن القيام بالنفس متضمنا لأمر وجودي، بل لا معنى له إلا العدم المحض، لم يكن صفة كمال، وعدم افتقاره إلى الغير أمر عدمي، والعدمي إن لم يتضمن صفة ثبوتية لم يكن صفة كمال، والعدم المحض لا يفتقر إلى محل، وكل صفة لا يشاركه فيها المعدوم لم تكن صفة كمال.

وأما الصنف الثاني فهم يوافقونك على أن صانع العالم ليس بمركب من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة، فليس هو بجسم.

وحينئذ فقولك: إن اختصاص الجسم بالحيز والجهة، قد يكون [ ص: 352 ] لذاته المخصوصة، إن عنيت بذاته المخصوصة هذا التركيب، فهذا المعنى ممنوع عنده، فضلا عن أن يكون علة لهذا الحكم.

وإن عنيت بذاته المخصوصة ما هو مشترك بين الأجسام من كونها مشارا إليها، فلا يسلم لك أن في الوجود قائما بنفسه غير مشار إليه.

التالي السابق


الخدمات العلمية