صفحة جزء
الجواب السابع: أن يقال: بل العقل الصريح الموافق للسمع لا منازع له. والعقل قد دل على أن الله تعالى فوق العالم، وهذه طريقة حذاق أهل النظر من أهل الإثبات، كما هو طريق السلف والأئمة: يجعلون العلو من الصفات المعلومة بالعقل. وهذه طريقة أبي محمد بن كلاب وأتباعه، كأبي العباس القلانسي، والحارث المحاسبي وأشباههما [ ص: 132 ] من أئمة الأشعرية، وهي طريقة محمد بن كرام وأتباعه، وطريقة أكثر أهل الحديث والفقه والتصوف، وإليها رجع القاضي أبو يعلى وأمثاله.

ولكن طائفة من الصفاتية من أصحاب الأشعرية، ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم، يظنون أن العلو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين ونحو ذلك، وأنهم إذا أثبتوا ذلك أثبتوه لمجيء السمع به فقط، ولهذا كان من هؤلاء من ينفي ذلك ويتأول نصوصه أو يعرض عنها كما يفعل مثل ذلك في نصوص الوجه واليد.

ومن سلك هذه الطريقة فإنه يبطل الأدلة التي يقال: إنها نافية لهذه الصفة، كما يبطل ما به ينفون صفة الاستواء والوجه واليدين، ويبين أنه لا محذور في إثباتها، كما يقول مثل ذلك في الاستواء والوجه واليد، ونحو ذلك من الصفات الخبرية.

وهؤلاء كلامهم أمتن من كلام نفاة الصفات الخبرية نقلا وعقلا، وإذا قيل: إن في كلامهم تناقضا، أو أنهم يقولون ما لا يعقل، ففي كلام النفاة من التناقض وما لا يعقل أكثر مما في كلامهم، فهم بالنسبة إلى النفاة أكمل علما بالمعقول والمنقول، وأما بالنسبة إلى السلف والأئمة أهل الإثبات، فيظهر من تناقضهم وقولهم ما لا يعقل ما يظهر به رجحان طريقة السلف والأئمة عليهم، وتنسد به معارضة النفاة لهم. ويتبين به الحق الذي لا يعدل عنه من فهمه ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم المثبتون للعلو بالعقل لهم طرق: منها: أنهم يقولون: العلم بذلك ضروري مستقر في فطر بني آدم. [ ص: 133 ]

ومنها: أنهم يقولون: قصدهم لربهم عند الحاجات التي لا يقضيها إلا هو - هو أيضا ضروري، وقصدهم لهم بتوجه قلوبهم إلى العلو أيضا ضروري، فهم مفطورون على الإقرار به وأنه في العلو، وعلى أنهم محتاجون إليه يسألونه عن الضرورات، وعلى أنهم يقصدونه في العلو لا في السفل، وأن قلوبهم بفطرتها تتوجه إلى العلو، اللهم إلا من أفسد فطرته وقصد أن يصدها عن مقتضاها مع أن هذا عند الحقيقة يغلب مع فطرته، ويضل عنه ما كان يفتريه.

ومنها أنهم يقولون: إن ذلك أمر متفق عليه بين العقلاء السليمي الفطرة، وكل منهم يخبر بذلك عن فطرته من غير مواطأة من بعضهم لبعض، ويمتنع في مثل هؤلاء أن يتفقوا على تعمد الكذب عادة، ويمتنع أيضا غلطهم في الأمور الفطرية الضرورية، فإن ذلك يسد باب العلم والمعرفة، وأن يثق الإنسان بشيء من علومه. ومتى قدح في مثل هذا، كان القدح في مقدمات ما يدعى أنه معارض لذلك أسهل بكثير، فإن المعارضين لا بد فيما يعارضون به من العقليات من قضايا تلقاها بعضهم عن بعض، فيجوز عليهم فيها من الاتفاق على الغلط وعلى تعمد الكذب، ما لا يجوز على المتفقين على قضايا لم يتلقها بعضهم عن بعض، مع كثرة هؤلاء وتنوع أصنافهم.

ومنها أنهم يثبتون العلو بطرق نظرية: كقولهم: كل موجودين فإما أن يكون أحدهما مباينا للآخر، وإما أن يكون مداخلا له، ونحو ذلك من الطرق المعلومة لهم، فمعهم من العلم الضروري، والقصد الضروري، واتفاق العقلاء الذين لم يتواطأوا على قضاياهم والعقليات [ ص: 134 ] النظرية ما ليس للنفاة ما يشابهه، وليس مع النفاة إلا أقيسة نظرية قد بين فسادها، ومن لم يعلم فسادها على التفصيل كفاه أن يعلم فسادها مجملا، فإنها مخالفة للمعارف الضرورية، ولما أجمعت عليه فطر البرية، مع مخالفتها لما جاء في الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب، فالعلم الموروث عن الأنبياء من بني إسرائيل وغيرهم، مع علم عامة المسلمين بمخالفتها للقرآن، ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولما أجمع عليه سلف الأمة وخيار قرونها، ولما اجتمع عليه عامة المؤمنين وأعيان الأمة من كل صنف.

التالي السابق


الخدمات العلمية