صفحة جزء
وكذلك أيضا إذا قيل عن القرآن العزيز - أو غيره - إنه كلام الله، فإن هذا لا يوجب أن تكون إضافته إليه إضافة خلق وملك، لوجهين: أحدهما: أنه صفة، والصفات إذا أضيفت إليه كانت إضافة وصف لا إضافة خلق. الثاني: أن هذا يقتضي أن يكون كل كلام خلقه الله كلامه، فيكون إنطاقه لما أنطقه من المخلوقات كلاما له، ومن عرف أن الله خالق كل شيء لزمه أن يجعل كل كلام في الوجود كلامه، كما فعل ذلك حلولية الجهمية، كابن عربي وغيره حيث قالوا:


وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه

[ ص: 268 ]

ولا يجوز أن تكون إضافته إليه لاختصاصه بمعنى يحبه ويرضاه، كما أضاف إليه البيت والناقة، بقوله تعالى: وطهر بيتي للطائفين والقائمين [سورة الحج: 26]، وقوله: ناقة الله وسقياها [سورة الشمس: 13]، لأن هذا يوجب أن يكون كل كلام يحبه الله فإنه كلامه، فيكون الإنسان إذا أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس يكون ذلك كلام الله، ويكون الشاهد إذا شهد بشهادة أمر بها تكون كلام الله، ويكون كل من حدث بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنما حدث بكلام الله [تعالى].

والناس قد تنازعوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله .

هل المراد بها: الكلمة التي شرعها الله، وهي عقد النكاح؟ أو المراد كلمة الله التي تكلم بها، وهي شرعه وإذنه وتحليله لذلك؟

والصواب أن المراد بقوله: كلمة الله، كلامه الذي تكلم به المتضمن إذنه وتحليله وشرعه، لا العقد الذي هو كلام العباد. ومن قال [ ص: 269 ] إن المراد به العقد فقد أخطأ من وجوه متعددة، قد بسطناها في غير هذا الموضع، وتكلمنا على ذلك في مسألة مفردة، ولا يعرف قط أنه أضيف إلى الله كلام إلا كلام تكلم [الله] به، ولكن لو قدر أنه قد يراد بالكلام المضاف إلى الله ما أمر به، وقدر أنه حصل نزاع في قوله: وكلمة الله هي العليا [سورة التوبة: 40] هل المراد: الكلمة التي يحبها ويأمر بها؟ أو الكلمة التي تكلم بها، وهي نفس أمره وخبره؟

وكذلك قوله [صلى الله عليه وسلم]: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. فمن قال: المراد بالجميع كلام الله الذي تكلم به اطردت الإضافة على قوله، ولو قدر أن قائلا قال: أضيف إليه من الكلام ما يحبه ويرضاه، وإن لم يكن تكلم به - لم يمكن أن يجعل كون القرآن [ ص: 270 ] كلامه من هذا الباب بالضرورة والاتفاق، إذ لازم ذلك أن يكون القرآن بمنزلة ما أمر به من الشهادة والأخبار وتقويم السلع وخرص النخل وسائر أنواع الكلام الصادق الذي يجب التكلم به، فيكون كل من تكلم بشيء من ذلك قد تكلم بكلام الله، ويكون كون القرآن كلام الله هو من هذا الباب، ولا يكون لله عز وجل في نفسه كلام إلا ما تكلم به الخلق، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده.

ثم قول القائل: الكلام الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به، أو الكلام الذي يكرهه وينهى عنه - يقتضي أن هناك محبة ورضاء وأمرا غير المأمور به، وكلاما هو نهي غير المنهي عنه، وذلك هو كلامه الذي هو أمره ونهيه، فالأمر والنهي غير المأمور به والمنهي عنه.

وهذا على قول من اشتبه عليه أمر الإضافة في هذه المواضع، وإلا فالصواب في قوله [صلى الله عليه وسلم]: واستحللتم فروجهن بكلمة الله، أنها كلمته التي تكلم بها.

وكذلك قوله تعالى: وكلمة الله هي العليا [سورة التوبة: 40]. [ ص: 271 ]

هي كلمته التي تكلم بها، وكل كلام تكلم به سبحانه مخبرا فإنه صدق، كما أن كل كلام تكلم به آمرا فهو عدل، وقد تمت كلماته صدقا وعدلا.

فالكلام له نسبة إلى المتكلم به، وهو الآمر المخبر [به] وله نسبة إلى المتكلم فيه، وهو المأمور به والمخبر عنه، فكلام الله الذي تكلم به يشترك كله في كونه تكلم به.

ثم ما أخبر به عن نفسه، مثل قوله تعالى: قل هو الله أحد [سورة الإخلاص: 1]، وآية الكرسي، وغير ذلك - أفضل مما أخبر به عن خلقه، وذكر فيه أحوالهم، كقوله تعالى: تبت يدا أبي لهب وتب [سورة المسد: 1]، وهذا أصح القولين لأهل السنة وغيرهم،

وهو قول جمهور العلماء من الأولين والآخرين، فإن طائفة من المنتسبين إلى السنة وغيرهم يقولون: إن نفس كلام الله تعالى لا يتفاضل في نفسه، بناء على أنه قديم، والقديم لا يتفاضل.

ويتأولون قوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [سورة البقرة: 106] [ ص: 272 ] ، أي خير لكم وأنفع.

والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة: أن بعض كلام الله أفضل من بعض، كما دل على ذلك الشرع والعقل.

ففي الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي سعيد بن المعلى: لأعلمنك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، ثم أخبره أنها فاتحة الكتاب، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس في القرآن لها مثل، فبطل قول من يقول بتماثل جميع كلام الله.

وكذلك ثبت في الصحيح أنه قال لأبي بن كعب: أتدري أي آية في كتاب الله أعظم: فقال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم [سورة البقرة: 255]، فضرب بيده في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر، فبين أن هذه الآية أعظم من غيرها من الآيات. [ ص: 273 ]

وقد ثبت عنه في الصحيحين من غير وجه أن: قل هو الله أحد [سورة الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن.

وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق. فثلثه قصص. وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار.

وأيضا فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلم به في أنه تكلم بالجميع، فقد تفاضل من جهة المتكلم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية