صفحة جزء
والناس كلهم متفقون على الاجتهاد والتفقه، الذي يحتاج فيه إلى إدخال القضايا المعينة تحت الأحكام الكلية العامة، التي نطق بها الكتاب والسنة. وهذا هو الذي يسمى تحقيق المناط، كالاجتهاد في تعيين القبلة عند الاشتباه، والاجتهاد في عدل الشخص المعين، والنفقة بالمعروف للمرأة المعينة، والمثل لنوع الصيد أو للصيد المعين، والمثل الواجب في إتلاف المال المعين، وصلة الرحم الواجبة، ودخول أنواع [ ص: 337 ] من المسكرات في اسم الخمر، وأنواع من المعاملات في اسم الربا والميسر، وأمثال ذلك مما فيه إدخال أعيان تحت نوع، وإدخال نوع خاص تحت نوع أعم منه.

فهذا الاجتهاد مما اتفق عليه العلماء، وهو ضروري في كل شريعة، فإن الشارع غاية ما يمكنه بيان الأحكام بالأسماء العامة الكلية، ثم يحتاج إلى معرفة دخول ما [هو] أخص منها تحتها من الأنواع والأعيان.

وقد احتج من احتج من الأئمة المثبتين للقياس عليه بمثل هذا القياس، وأن القرآن العزيز ورد بمثل هذا في القبلة، وجزاء الصيد، وعدل الشخص، ونحو ذلك. وهذا لا حجة فيه، فإن مثل هذا لا نزاع فيه، وهو ضروري لا بد منه، ولا يمكن إثبات حكم النوع - أو عين - إلا بمثل هذا.

ونفاة القياس لا يسمونه قياسا، وإن سماه المسمي قياسا كان نزاعا لفظيا. والتحقيق أن دخول الأعيان في المعنى العام الذي دل عليه الخطاب، هو من قياس الشمول، وأن تمثيل بعض الأعيان والأنواع ببعض، هو [من] قياس التمثيل، لكن شمول اللفظ لهذا ولهذا بطريق العموم يغني عن قياس التمثيل. [ ص: 338 ]

ونفاة القياس المعروفون بالسنة لا ينازعون في العموم، وإن سماه المسمي قياسا كليا، بل هو عمدتهم وعصمتهم، هو واستصحاب الحال. فهذا نوع. ومن نازع في القياس والعموم جميعا - كما فعل ذلك من فعله من الرافضة - فهؤلاء سدوا على أنفسهم طريق معرفة الأحكام، فلهذا يحتجون بما يزعمون أنه قول المعصوم. ومن الناس من يظن أن العلة المنصوصة هي المسماة بتحقيق المناط، وهي داخلة فيه. وليس كذلك، فإن هذه فيها نزاع.

وهنا نوع ثان يسمى تنقيح المناط، وهو أن يكون الشارع قد نص على الحكم في عين معينة، وقد علم بالنص والإجماع أن الحكم لا يختص بها، بل يتناولها وغيرها، فيحتاج أن ينقح مناط الحكم، أي يميز الوصف الذي تعلق به ذلك الحكم، بحيث لا يزاد عليه ولا ينقص منه.

وهذا كأمره صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي استفتاه لما جامع امرأته في رمضان بالكفارة، ثم لما أتى بالعرق، قال: أطعمه أهلك وأمره لمن سأله عن فأرة وقعت في سمن بأن تلقى وما حولها ويأكل السمن. وأمره لمن سأله عمن أحرم بعمرة، وعليه جبة، وهو متضمخ بخلوق، أن ينزع عنه الجبة، ويغسل الخلوق، ويصنع في [ ص: 339 ] عمرته ما كان صانعا في حجته. وأمره لمن ابتاع صاعا جيدا من التمر بصاعين من الرديء، أن يبيع الرديء بدراهم ثم يبتاع بها جيدا. ومثل أمره لبريرة لما عتقت أن تختار. ومثل رجمه لماعز والغامدية، وقطعه لسارق رداء صفوان والمخزومية وغيرهما، وأمثال ذلك.

فإنه من المعلوم لجميع العلماء أن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ليس مخصوصا بتلك الأعيان، بل يتناول ما كان مثلها، لكن يحتاجون إلى معرفة مناط المشترك الذي به علق الشارع الحكم.

وهذا قد يكون ظاهرا، وقد يكون خفيا. فالظاهر: مثل كون سبب الرجم هو زنا المحصن، وسبب القطع هو السرقة. والخفي: مثل كون الكفارة وجبت لخصوص الجماع، أو لعموم الإفطار. وهل وجبت لنوع من الإفطار، أو لجنسه؟ وهل وجب لوقاع في صوم صحيح في رمضان، أو لوقاع في صوم واجب في رمضان؟ سواء كان صحيحا أو فاسدا؟ كما يجب في الإحرام الواجب، سواء كان صحيحا أو فاسدا فهذه مما تنازع فيه الفقهاء.

وكذلك لما أجاب عن الفأرة التي وقعت في السمن، فلا ريب أن الحكم ليس مخصوصا بتلك الفأرة والسمن، ولا بنوع من الفأر ونوع من الأسمان، فلا بد من إثبات حكم عام. وهذا النوع يقر به كثير من منكري القياس، أو أكثرهم. وكثير من الفقهاء لا يسميه قياسا، بل يثبتون به الكفارات والحدود، وإن كانوا لا يثبتون ذلك بالقياس، فإنه [ ص: 340 ] هنا قد علم يقينا أن الحكم ليس مخصوصا بمورد النص، فلا يجوز نفيه عما سواه بالاتفاق، كما يمكن ذلك في صور القياس المحض المسمى بتخريج المناط، فإنه لما نهى عن التفاضل في الأصناف الستة لم يعلم أن حكم غيرها حكمها، إلا بدليل يدل على ذلك. ولهذا كان بعض نفاة القياس لما حكموا في مثل هذا بأن الحكم مخصوص بفأرة وقعت في سمن، دون سائر الميتات والنجاسات الواقعة في سائر المائعات، ظهر خطؤهم يقينا، فإن الشارع - صلوات الله عليه - لم يعلق الحكم في خطابه بفأرة وقعت في سمن، ولكن السائل سأله عن ذلك، والسائل إذا سأل عن حكم عين معينة، أو نوع باسمه، لم يجب أن يكون الحكم معلقا مختصا بما سأل عنه السائل، بل قد يكون ما سأل عنه السائل داخلا في حكم عام، كما إذا سئل عن عين معينة لم يكن الحكم مخصوصا بتلك العين، ولا فرق بين أن يسأل عن عين أو نوع، فليس في جوابه ما يقتضي اختصاص الحكم بمورد السؤال، فهذا من أعظم الغلط.

وهنا يظهر تفاضل العلماء بما آتاهم الله من العلم، فمن استخرج المناط الذي دل عليه الكتاب والسنة، دل على فهمه لمراد الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل أن يقول القائل: الحكم هنا ليس متعلقا بمجرد الميتة، بل بالخبيث الذي قال الله تعالى فيه: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [سورة الأعراف: 157]، فإن الميتة، وإن [ ص: 341 ] شاركت الخنزير والدم في التحريم، فقد شمل الجميع اسم الخبيث، فالتحريم متناول للوصف العام، ليس مخصوصا بنوع من الأنواع، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه دليل على الاختصاص بنوع، لتعلق الحكم بالوصف العام المشترك - وهو الخبث - فيكون الخبيث الجامد الواقع في السمن حكمه حكم الفأرة، سواء كان دما أو ميتة متجسدة، ونحو ذلك. ثم ينظر في السمن فيعلم أنه لا اختصاص في الشرع له بذلك، بل سائر الأدهان كذلك ثم سائر المائعات كذلك، ثم يبقى النظر: هل يفرق بين الماء وسائر المائعات؟ أو يسوى بينها؟ وهل يفرق بين الجامد والمائع أو يسوى بينهما؟ وهل يفرق بين القليل والكثير، أو يسوى بينهما؟ هذا من المواضع الخفية التي تنازع فيها العلماء.

والمقصود هنا أن مثل هذا لا يرده إلا جهلة نفاة القياس. وكذلك العلة المنصوصة، وكذلك القياس في معنى الأصل، وقياس الأولى. وأما القياس الذي يستخرج علة الأصل فيه بالمناسبة، فهذا محل اجتهاد. ولهذا تنازع الفقهاء القياسون من أصحاب أحمد وغيرهم في ذلك، فمنهم من لا يقول إلا بالعلة المنصوصة، ومنهم من يقول بالمؤثر، [ ص: 342 ] وهو ما نص على تأثيره في نظير ذلك الحكم، كالصغر فإنه قد علم أن الشارع علق به ولاية المال، فإذا علق به ولاية النكاح كان هذا إثباتا لعلة هذا الحكم بنظيره المؤثر. وأما إذا لم يكن مؤثرا، فهو الذي يسمونه المناسب الغريب، وفيه قولان مشهوران، فإنه استدلال على أن الشرع علق الحكم بالوصف لمجرد ما رأيناه من المصلحة.

التالي السابق


الخدمات العلمية