صفحة جزء
والشرك نوعان: أحدهما: شرك في الربوبية، والثاني شرك في الإلهية. فأما الأول فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلا بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول، أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلا بشيء من الإحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الحوادث عن الفاعل، فإن كل ما يذكرونه من فعل هذه الفاعلات أمر حادث يفتقر إلى محدث يتم به إحداثه، وأمر ممكن لا بد له من واجب يتم به [ ص: 391 ] وجوده، وكل ما سوى الخالق القديم الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره، فلا يتم به حدوث حادث، ولا وجود ممكن.

وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا الوجه، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، وإنما كان من النوع الثاني، فإثبات التوحيد في النوع الثاني يتضمن الأول من غير عكس.

والثاني الشرك في الإلهية، وضده هو التوحيد في الإلهية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين المقرين بأنه رب كل شيء، كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع، ويستدفعون بها المضار، ويتخذونها وسائل تقربهم إليه، وشفعاء يستشفعون بها إليه.

وهؤلاء خلق من خلقه، لا يملكون لأحد نفعا ولا ضرا إلا بإذنه، فكل ما يطلب منهم لا يكون إلا بإذنه، وهو سبحانه لم يأمر بعبادة غيره، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل.

بل قد قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [سورة الزخرف: 45].

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [سورة الأنبياء: 25].

وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [سورة يونس: 18]. [ ص: 392 ]

وهذا المعنى كثير في القرآن: يبين سبحانه أنه لم يشرع عبادة غيره، ولا أذن في ذلك، بل يبين أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلا، يمتنع أن يكون إلها معبودا.

وإذا كان جعل المملوك شريكا في الملك الناقص - بحيث يرغب إليه كما يرغب إلى المالك، يرهب منه كما يرهب من المالك - ممتنعا يوجب الفساد، فجعل المملوك المخلوق شريكا لمالكه الخالق أولى بالامتناع ولزوم الفساد.

وذلك أن الذي يخافه إنما يخاف أن يضره، فإذا كان يعلم أنه لا يضره إلا بإذن الله [سبحانه، كان الله تعالى] هو الذي يجب أن يخاف. وكذلك الذي يرجوه، إذا كان إنما يرجو نفعه، وهو لا ينفعه إلا بإذن الله، كان الله هو الذي يجب أن يرجى، إذ لا ينفع ولا يضر إلا بإذن الله، بخلاف مملوك البشر، فإنه - وإن كان لا يتصرف في المال إلا بإذن سيده، ولا يمنع من أذن [له] [ ص: 393 ] سيده - فقد يمكنه معصية سيده، وإن كان في معصيته نوع من الفساد.

والخالق تعالى لا يمكن أحدا أن يفعل شيئا إلا بمشيئته وقدرته، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وفي معصية أمره الفساد الذي لا صلاح معه، فالمخلوق أعجز عن أن ينفع أو يضر بدون إذنه، من [عجز] المملوك عن النفع والضر بدون إذن سيده، ومعصية المخلوق لأمره، الذي أرسل به رسله، أعظم فسادا من معصية المملوك لأمر سيده.

قال تعالى في قصة الخليل صلى الله عليه وسلم ومناظرته لقومه: وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون [سورة الأنعام: 80 : 81]. [ ص: 394 ]

قال تعالى: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [سورة الأنعام: 82].

وقال تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم [سورة فاطر: 2].

التالي السابق


الخدمات العلمية