صفحة جزء
وما ذكره من أن حدوث العالم لا يتم إلا بإبطاله، يقول منازعوه: إن الأمر في ذلك بالعكس، وإن القول بما أخبرت به الرسل من أن الله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، لا يتم مع هذا القول، ولا يتم إلا بنقيضه، لأن إبطال هذا يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وحدوث مجموع الحوادث بلا سبب حادث، ويصير الفاعل فاعلا بعد أن لم يكن، بدون سبب جعله فاعلا، بل حقيقة هذا القول أنه صار قادرا بعد أن لم يكن بغير سبب، وصار الفعل ممكنا بدون سبب وهذا ممتنع في بداءة العقول.

وبذلك صالت الدهرية على أهل الكلام، الذين سلكوا هذه السبيل. فإنهم لما رأوا فساد هذا القول في صريح المعقول، وظنوا أن هذا قول الرسل وأتباعهم، اعتقدوا أن الرسل صلوات الله عليهم أخبرت بما يخالف صريح المعقول. ثم من أحسن الظن بهم قال: فعلوا ذلك لمصلحة الجمهور، إذ لم يمكن مخاطبتهم بالحق المحض، فكذبوا لمصلحة الجمهور، فساء ظن هؤلاء بما جاءت به الأنبياء، وامتنع أن [ ص: 98 ] يستدلوا به على علم، وأولئك المتكلمون بجهلهم قصدوا إقامة الدليل على تصديق الأنبياء، ونصر ما جاءوا به، فلما نقص علمهم بالسمعيات والعقليات أدى ما فعلوه إلى تكذيب الرسل والطعن فيما جاءوا به.

فأما القول بما أخبرت به الرسل فلا يناقض هذا الأصل، بل يبطل ما يدفع به الملاحدة أقوال الرسل. ثم إنه يحكي عن أهل الحديث هذا القول، وأن معنى قولهم هو أنه تحله الحوادث، وتجد كثيرا من متكلمة أهل الحديث كأبي الحسن بن الزاغوني، وأبي بكر بن عربي يحكون الإجماع على امتناع قيام الحوادث به، وأظن أن أبا علي بن أبي موسى ذكر ذلك، وهذا من جملة الإجماعات التي يطلقها من يطلقها بحسب ما ظنه، وهذا لأن هذه أقوال مجملة، قد يفهم منها ما هو باطل بالإجماع، والمطلقون لها أدرجوا فيها معاني كثيرة، لا يفهمها إلا خواص الناس.

التالي السابق


الخدمات العلمية