صفحة جزء
ثم من أراد إثبات حدوث الأجسام بأنها لا تخلو عن الحركة والسكون، كما فعله من فعله من المعتزلة ومن وافقهم، فالأمر عليه أيسر [ ص: 101 ] من إثبات من أثبت ذلك، بأنها لا يخلو من كل جنس من أجناس الأعراض عن واحد منها، وأن جميع أنواع الأعراض لا تبقى زمانين، كما سلك هذه الطريقة كثير من الأشعرية ومن وافقهم، فإن هذه أبعد الطرق وأطولها وأضعفها مقدمات، لو كان في هذه الطرق شيء صحيح.

فالجواب لعبد الجبار عن الأشعري أن يقال له: هو استدل بحدوث الإنسان، وهو أمر معلوم مشهود لا ينازع فيه عاقل، وكان في ذلك مندوحة له عن الاستدلال بحدوث جميع الأجسام، وحينئذ فإذا ثبت أن للإنسان صانعا ثبت سائر صفاته من العلم والقدرة وغير ذلك، ثم أمكن أن يعلم حدوث السماوات والأرض بالسمع، فلا يحتاج إلى ما يدل على حدوث جميع الأجسام، مع أن تمام الطريقة التي ذكرها الأشعري تدل على ذلك، فيقال لعبد الجبار: إن كانت طريقتكم صحيحة فقد سلكها الأشعري في آخر استدلاله، وإن كانت باطلة لم يكن عليه ملام في تركها، بل الذين ذموا ما ذموا منه، من أتباع السلف والأئمة، ذموا منها ما وافقكم فيه من هذه الطريقة وأمثالها، فالذي تطلبون منه من موافقتكم، هو الذي ينكره عليه السلف والأئمة، كما ينكرون ذلك عليكم. [ ص: 102 ]

وفي الجملة، فإن كان طريقكم مذموما فالذم الذي يلحقه به أقل مما يلحقكم به، وإن كان صحيحا فهو قد سلكه في آخر الدليل، لكنه لم يجعل نفس إثبات الصانع تعالى مفتقرا إلى إثبات حدوث الأجسام، لعلمه بأن الأمر ليس كذلك، وبأن هذا مخالفة لدين المسلمين، وسائر أهل الملل، فكان في موافقتكم على سلوك هذه الطريق ابتداء مخالفة للشرع والعقل.

وأما كون من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، ومن اعترف بالمفعول اعترف بالفاعل، كما ذكره هذا المعتزلي، فالأمر كذلك. ولهذا لم يتعرض الأشعري للدليل على ذلك، بل جعل كون المحدث دالا على المحدث أمرا مستقرا معلوما بالفطرة، إذ النزاع في ذلك أقبح من نزاع السوفسطائية.

التالي السابق


الخدمات العلمية