صفحة جزء
وأما القول الذي ذكره ابن سينا وهو أنه معلول علة واجبة أبدعته، فهذا قوله وقول أمثاله من الفلاسفة. وقد حكي هذا القول عن برقليس، وقد نازعه فيه إخوانه الفلاسفة، وهو لم يذكر له عليهم حجة مستقيمة، وإنما احتج عليهم بما احتج عليهم بما ذكره في توحيد واجب الوجود، وأنه يكون موصوفا بصفات فتكون فيه كثرة، ولا يكون جسما فتكون فيه كثرة، ونفى الأنواع الخمسة التي سماها تركيبا كتركيب الجسم من أجزائه الحسية: الجواهر المفردة، ومن أجزائه العقلية: وهي المادة والصورة، ومن الذات والصفات، ومن العام والخاص، ومن الوجود والماهية. [ ص: 251 ]

ولهذا بين أبو حامد الغزالي وغيره من المسلمين، بل وابن رشد وأمثاله من الفلاسفة، فساد ما ذكروه في هذا التوحيد، وبطلان ما نفوه من هذه المعاني التي سموها تركيبا، وأنه لا حجة لهم على ذلك أصلا إلا ما توهموه من مدلول لفظ واجب الوجود بالمعنى الذي تصوروه، لا بالمعنى الذي قام عليه الدليل، فكان مبنى حجتهم على ألفاظ مجملة إذا بينت ظهر فساد كلامهم.

ولهذا احتاج ابن سينا في مسألة إثبات الصانع إلى توحيده، فضلا عن إثبات أفعاله قال: (وقال آخرون: بل هذا الوجود المحسوس معلول. ثم افترقوا: فمنهم من زعم أن أصله وطينته غير معلولين، لكن صنعته معلولة. وهؤلاء قد جعلوا في الوجود واجبين. وأنت خبير باستحالة ذلك. ومنهم من جعل وجوب الوجود لشيئين أو لعدة أشياء، وجعل غير ذلك من ذلك. وهؤلاء في حكم الذين من قبلهم) .

فيقال له: الذين جعلوا الوجود لشيئين أو عدة أشياء، يدخل فيهم من جعل أصله وطينته غير معلومين، فإن ما لم يكن معلولا كان واجبا لنفسه، فهؤلاء جنس واحد، حيث جعلوا واجب الوجود أكثر من [ ص: 252 ] واحد. ومع هذا فحجتك على إبطال قولهم قد عرف ضعفها، ولكن الفرق بين هؤلاء وهؤلاء: أن هؤلاء يجعلون الصانع أكثر من واحد، فيقولون بالتعدد في الصانع. وأولئك إذا أثبتوا أصلا وطينة غير معلولة، فلا يجعلونها فاعلة صانعة، بل قابلة للفاعل، فهؤلاء يقولون: إن الفاعل للعالم واجب بنفسه وهؤلاء يدخل فيهم من قال بقولهم، كابن زكريا المتطبب حيث قالوا: القدماء خمسة، وسبب حدوث العالم عشق النفس للهيولى، فإن هؤلاء يقولون بقدم مادة العالم ومكانه وزمانه والنفس. وكان ابن سينا ذكر هذا القول، وذكر قول المجوس الذين يقولون بقدم النور والظلمة. فهذان القولان متشابهان من بعض الوجوه، فإن هذا يقول: سبب حدوث العالم اختلاط النور والظلمة. وهذا يقول: سببه عشق النفس للهيولى، ثم ذكر قول المتكلمين وقول أصحابه، فلم يذكر إلا هذه الأقوال الأربعة. وأما قول أئمة الفلاسفة وأساطينهم القدماء فلم يذكره، كما لم يذكر قول الأنبياء وسلف الأمة.

وحينئذ فيقال: مذهب جمهور الفلاسفة أن أصل العالم معلول عن الواجب نفسه، والعالم مع ذلك محدث الصورة. فهؤلاء لا يقولون بتعدد الواجب، ولا يقولون بقدم العالم، ولا يقولون بأن طينته غير [ ص: 253 ] معلولة. وهذا القول لم يذكره في نقله للمقالات، مع أنه من أشهر الأقوال عن أساطين الفلسفة، وهو أظهر أقوالهم في الحجة والدليل، فإنه لا يرد عليه ما يرد على غيره، ولا يمكنه أن يحتج على فساد قول هؤلاء بما احتج به على فساد قول غيرهم، بل حجته الصحيحة لا تدل إلا على قول هؤلاء، فإنهم يمكنهم أن يثبتوا للحوادث سببا حادثا، ويجعلون الفاعل معطلا عن الفعل، ولا يقولون بقدم الأفلاك وحدوث حوادثها من غير سبب حادث، ولا يخالفون النصوص المشهورة عن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. فكان قولهم أقرب إلى العقل والنقل من الأقوال التي ذكرها.

التالي السابق


الخدمات العلمية