صفحة جزء
وقد ذكر القاضي أبو بكر بعد هذا فقال: (فصل: فإن قال قائل من أهل الدهر، الذاهبين إلى أنه: لا حركة إلا وقبلها [ ص: 340 ] حركة، ولا حادث إلا وقبله حادث، لا إلى غاية: فما أنكرتم من ألا تدل الحوادث على حدوث الجسم أصلا، إذ كان لا أول لوجودها، ولا شيء منها إلا وقبله شيء لا إلى غاية؟.

يقال له: أنكرنا ذلك لأمور: أقربها أن هذا الذي قلته محال متناقض، وذلك أنه لا يخلو ما مضى من الحوادث وانقضى، أن يكون محدثا موجودا عن أول، وأن يكون الفعل والفراغ قد أتيا عليه، أو أن يكون منها ما هو غير موجود عن أول، ولا كائن عن حدوث. فإن كان الماضي من الحوادث مستفتحا مبتدأ قد أتى عليه الفراغ - استحال قولكم: إنها لم تزل موجودات شيئا قبل شيء، لأن ما لم يزل موجودا فقديم غير مستفتح.

وقولنا: إنها حوادث وجب لها الاستفتاح والوجود عن أول، والجمع بين ذلك متناقض - محال.

وإن كان فيما أوقعنا عليه هذه التسمية، وهو قولنا: حوادث، ما هو موجود لا عن أول، وكائن عن عدم، فالموجود لا بحدوث، والكائن لا عن عدم واجب أن يكون قديما لا محالة، كما أن الفلك عندكم وعناصر الأشياء - التي هي: الماء، والأرض، والنار، والهواء - قديمة عندكم، إذ كانت موجودة لا عن عدم، وكانت لا بحدوث، فواجب أن يكون الفلك قديما لا أول لوجوده. [ ص: 341 ]

ولو أمكن أن يكون فيما أوقعنا عليه قولنا: حوادث، ما هو كائن لا بحدوث، موجود لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث في الحقيقة - لوجب أن يكون الفلك أيضا وهذه الأعراض موجودة لا بحدوث، كائنا لا عن عدم، وهو مع ذلك محدث غير قديم.

وكذلك القول في سائر أجسام العالم المركبة من هذه الأصول. ولو جاز ذلك جاز في جميع أجسام العالم. فإن لم يجز هذا، ووجب قدم الفلك الكائن لا عن عدم، الموجود بغير حدوث - وجب قدم ما كان من الحوادث لا عن عدم، وما هو موجود فيها بغير حدوث.

وهذا يوجب أن من الحوادث ما هو قديم، وذلك غاية التناقض والجهل لمن بلغه، لأن هذين الوصفين متناقضان.

وإذا كان كذلك استحال ما قلتموه من أن الحوادث لم تزل شيئا قبل شيء لا إلى أول.

قال: (وتحرير ذلك أن هذا قول يوجب أن منها ما هو قديم لا محالة. والقديم لا يكون محدثا، ولا مجموعا من الحوادث، لأن قولنا محدث جمع مبني من لفظ واحد، ومن المحال أن يكون من جملة الحوادث.

فوجب أن للحوادث كلا وجميعا، وأن ما انقضى منها ومضى قد لقي الفراغ على جميعه، وإن لم يسبقه ولم يكن قبله، فواجب أن يكون محدثا مثله) . [ ص: 342 ]

فدل ما ذكره أبو الحسن في حال النطفة، وما يلحقها من التغييرات والانقلاب والتأثيرات على أنها محدثة، وهي وسائر الأجسام، إذ سائر الأجسام هي كالنطفة فيما استدل به على حدوثها، من الاعتمال والتأثير والانقلاب والتغيير) .

قال: (وهذا الطريق من الكلام في حدوث الأجسام هو المعتمد في هذا الباب) .

التالي السابق


الخدمات العلمية