صفحة جزء
قلت: ابن عباس -رضي الله عنه- خطب بهذه الخطبة بالبصرة، وكان عنده وعند غيره من الصحابة من العلم بما يحدث في هذا الأمة، والتحذير من أسباب الفتن، ما قد نقل إلينا، كما في الحديث الذي ذكره أحمد في رسالته للمتوكل في قصة ابن عباس مع عمر بن الخطاب، لما كثر القراء، وخوفهما من اختلاف الأمة وافتراقها، والمسائل المشكلة إذا خاض فيها أكثر الناس لم يفهموا حقيقتها، وإذا تنازعوا فيها صار بينهم أهواء وظنون، وأفضى ذلك إلى الفرقة والفتنة. [ ص: 404 ]

ومن ذلك الحديث الذي رواه أحمد وغيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، وقائل يقول: ألم يقل الله كذا؟ وآخر يقول: ألم يقل الله كذا؟ فقال: أبهذا أمرتم؟ أم إلى هذا دعيتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فافعلوه، وما نهيتم عنه فاتركوه.

فهذا الحديث ونحوه مما ينهى فيه عن معارضة حق بحق، فإن ذلك يقتضي التكذيب بأحد الحقين، أو الاشتباه والحيرة. والواجب التصديق بهذا الحق وهذا الحق، فعلى الإنسان أن يصدق بالحق الذي يقوله غيره، كما يصدق بالحق الذي يقوله هو، ليس له أن يؤمن بمعنى آية استدل بها، ويرد معنى آية استدل بها مناظره، ولا أن يقبل الحق من طائفة، ويرده من طائفة أخرى.

ولهذا قال تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [سورة الزمر:32-33]. فذم سبحانه من كذب أو كذب بحق، ولم يمدح إلا من صدق وصدق بالحق. فلو صدق الإنسان فيما يقوله، ولم يصدق بالحق الذي يقوله غيره، لم يكن ممدوحا، حتى يكون ممن يجيء بالصدق ويصدق به، فأولئك هم المتقون.

التالي السابق


الخدمات العلمية