صفحة جزء
[ ص: 492 ] ثم إن الله بكمال رحمته وإحسانه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليهم، وإن كانوا فاعلين لما يستحقون به الذم والعقاب، كما كان مشركو العرب وغيرهم ممن بعث إليهم رسول، فاعلين للسيئات والقبائح التي هي سبب الذم والعقاب، والرب تعالى مع هذا لم يكن معذبا لهم حتى يبعث إليهم رسولا.

والناس لهم في هذا المقام ثلاثة أقوال، قال بكل قول طائفة من المنتسبين إلى السنة، من أصحاب الأئمة الأربعة، أصحاب أحمد وغيره.

طائفة تقول: إن الأفعال لا تتصف بصفات تكون بها حسنة ولا سيئة ألبتة. وكون الفعل حسنا وسيئا إنما معناه أنه منهي عنه أو غير منهي عنه، وهذه صفة إضافية لا تثبت إلا بالشرع، وهذا قول الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وهؤلاء لا يجوزون أن يعذب الله من لم يذنب قط، فيجوزون تعذيب الأطفال والمجانين.

وطائفة تقول: بل الأفعال متصفة بصفات حسنة وسيئة، وأن ذلك قد يعلم بالعقل ويستحق العقاب بالعقل، وإن لم يرد سمع، كما يقول ذلك المعتزلة، ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، كأبي الخطاب وغيره. [ ص: 493 ]

وطائفة تقول: بل هي متصفة بصفات حسنة وسيئة تقتضي الحمد والذم، ولكن لا يعاقب أحدا إلا بعد بلوغ الرسالة، كما دل عليه القرآن في قوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [سورة الإسراء:15].

وفي قوله: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير [سورة الملك:8-9].

وقال تعالى لإبليس: لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [سورة ص:85].

وهذا أصح الأقوال، وعليه يدل الكتاب والسنة، فإن الله أخبر عن أعمال الكفار بما يقتضي أنها سيئة قبيحة مذمومة، قبل مجيء الرسول إليهم، وأخبر أنه لا يعذبهم إلا بعد إرسال رسول إليهم.

وقوله تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا حجة على الطائفتين. وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم، فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول، ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذين لم يأتهم رسول، بل يقولون: إن عذابهم واقع.

وهذه الآية حجة عليهم، كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول.

والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول، ويعلم أن هذا [ ص: 494 ] الفعل محمود ومذموم، ودل على أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول. والله سبحانه أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية