صفحة جزء
فصل

ثم قال ابن رشد: (فإن قيل: فإذ قد تبين أن هذه الطرق كلها ليست واحدة منها هي الطريقة الشرعية التي دعا الشرع منها جميع الناس على اختلاف فطرهم إلى الإقرار بوجود الباري، فما هي الطريق الشرعية التي نبه الكتاب عليها وكان يعتمدها الصحابة؟

قلنا: الطرق الشرعية التي نبه الكتاب عليها، ودعا الكل من بابها، إذا استقرئ الكتاب، وجدت تنحصر في جنسين: أحدهما طرق الوقوف على العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله، وتسمى هذه دليل العناية. [ ص: 322 ]

والطريق الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات، مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الخمسة والعقل، ولنسم هذا دليل الاختراع.

أما الطريق الأولى فتبنى على أصلين: أحدهما: أن جميع الموجودات التي ها هنا موافقة لوجود الإنسان.

والأصل الثاني: أن هذه الموافقة هي ضرورة من قبل فاعل قاصد لذلك مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة بالاتفاق، فأما كونها موافقة لوجود الإنسان، فيحصل اليقين بذلك، بدليل موافقة الليل والنهار، والشمس والقمر، لوجود الإنسان، وكذلك موافقة الأزمنة الأربعة له، والمكان الذي هو فيه أيضا وهو الأرض.

وكذلك أيضا يظهر موافقة كثير من الحيوان له، والنبات والجمادات، وجزيئات كثيرة: مثل الأمطار، والأنهار، والبحار، وما تحمله [ ص: 323 ] الأرض والماء والهواء والنار.

وكذلك أيضا تظهر العناية في أعضاء الإنسان وأعضاء الحيوان، أعني كونها موافقة لحياته ووجوده.

وبالجملة فمعرفة منافع الموجودات داخلة في هذه الجنس. ولذلك وجب على من أراد أن يعرف الله تعالى المعرفة التامة أن يفحص عن صانع جميع الموجودات.

قال: وأما دلالة الاختراع، فيدخل فيها وجود الحيوان كله، ووجود النبات، ووجود السموات.

وهذه الطريقة تنبني على أصلين موجودين بالقوة في فطر جميع الناس. أحدهما: أن هذه الموجودات مخترعة، وهذا معروف بنفسه في الحيوان والنبات.

كما قال تعالى: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [سورة الحج: 73]، فإنا نرى أجساما جمادية ثم تحدث فيها الحياة، فنعلم قطعا أن ها هنا موجدا للحياة ومنعما بها، وهو الله تبارك وتعالى.

وأما السموات فنعلم من قبل حركاتها التي لا تفتر أنها مأمورة [ ص: 324 ] بالعناية بما هو ها هنا، ومسخرة لنا، والمسخر المأمور مخترع من قبل غيره ضرورة.

قلت: هذا يبين بأن حركات الأفلاك ليست من قبل أنفسها، بل من محرك منفصل عنها، حتى يكون ذلك المحرك لها هو الآمر المسخر.

وهذا يتبين بوجوه مبسوطة في غير هذا الموضع، مثل أن يبين المحرك من جهة الفاعل والسبب، ومن جهة المقصود والغاية، أي أنها لا بد أن تقصد بحركاتها شيئا منفصلا عنها، مثل ما يقول المسلمون وغيرهم من أهل الملل: إنها عابدة لله تعالى، ويقول المتفلسفة -كأرسطو وأتباعه-: إنها تقصد التشبه بالإله على قدر الطاقة.

وعلى القولين فتكون حركتها من جنس حركة المحب إلى محبوبه، والطالب إلى مطلوبه، وما كان له مراد منفصل عنه مستغن عنه -فهو محتاج إلى ما هو مستغن عنه، ومن احتاج إلى ما هو مستغن عنه لم يكن غنيا بنفسه، بل يكون مفتقرا إلى ما هو منفصل عنه، وهذا لا يكون واجب الوجود بنفسه، بل يكون ممكنا عبدا فقيرا محتاجا، فتكون السموات مفتقرة ممكنة ليست بواجبة.

والوجه الثاني: أن كل فلك فإنه يحركه غيره من الأفلاك المنفصلة عنه، فتكون حركته من غيره، والفلك المحيط بها المحرك لها لا يحرك ولا يؤثر في غيره، إلا بمعاونة غيره من الأمور المنفصلة عنه، فليس هو وحده المحرك [ ص: 325 ] لسائر أنواع حركاتها، بل يجب أن يكون المحرك غيره، والمتحركات المنفصلة عنه ليست منه وحده، بل منه ومن غيره، فليس فيها ما هو مستقل بالتحريك، وما كان مفتقرا إلى غيره لم يكن واجبا بنفسه. فلا بد من محرك منفصل عنها.

ومثل أن يقال: ليس شيء منها مستقلا بمصالح السفليات والآثار الحادثة فيها، بل إنما يحصل ذلك بأسباب منها اشتراكها، ومنها أمور موجودة في السفليات ليست من واحد منها، فكل واحد منها لا بد له من شريك معاون، له مانع يعوقه عن مقتضاه، فلا يتم أمره إلا بمشارك غني عنه، وانتفاء مانع معارض له، فيمتنع أن يكون مبدعا لشريكه الغني عنه، ولمانعه المضاد له، وأن يكون ما يحصل من المصالح التي في العالم السفلي بمجرد قصده وفعله، فوجب أن يكون هناك ما يوجب فعله وحركته من غيره، وذلك هو الأمر والتسخير.

لأن الحركة إن كانت قسرية فلها قاسر. وإن كانت طبيعية فالطبعية لا تكون إلا إذا خرجت بالعين من محلها، فهي مقسورة على الخروج.

وإن كانت إرادية فالمريد لآثار لا يستقل بها ولا يحصل إلا بمشاركة غيره، ويمتنع بمعارضة غيره له فيها، هو مفتقر في مقصوده إلى غيره.

ويمتنع أن يكون واجب الوجود بنفسه؛ لأن الواجب بنفسه لا يكون مفتقرا إلى غيره المستغني عنه بوجه من الوجوه؛ إذ لو افتقر إلى غيره بوجه من الوجوه، لم يكن من ذلك الوجه غنيا عن الغير، بل مفتقرا إليه. [ ص: 326 ]

ولا يتم ذلك الوجه إلا بذلك الغير المستغني عنه.

والمريد لأمر إذا لم يكن قادرا على تحصيل مراده كان عاجزا، وكان فقيرا إلى ما به يحصل مراده والمفتقر إلى ما يعجز عنه لا يكون واجبا بنفسه، ولا يكون كماله حاصلا به، بل بما هو مستغن عنه. فهذه الأمور وغيرها مما يستدل به على هذا المطلوب.

التالي السابق


الخدمات العلمية