صفحة جزء
والحركات ثلاثة: طبيعية، وقسرية، وإرادية. لأن الحركة: إما أن يكون مبدؤها من المتحرك، وإما من غيره. فما كان مبدؤها من غيره فهي القسرية الكرهية، وما كان مبدؤها من المتحرك، فإن كان على شعور منه فهي الإرادية، وإلا فهي الطبيعية.

والطبيعية لا تعرف إلا إذا خرج المطبوع عن مركزه، كصعود الحجر [ ص: 374 ] والماء إلى فوق، ففي طبعه الهوي والنزول، فهي تابعة للقسرية، فكل من الطبيعية والقسرية تابعة لغيرها.

فمبدأ الحركات كلها هي الإرادية، وكل إرادة لا يكون الله هو المراد المقصود بالقصد الأول بها، كانت ضارة لصاحبها مفسدة له، غير نافعة ولا مصلحة له.

وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته: إلا الله. كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا رب غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربا له، ولكن ثم أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها.

وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقل بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يحب ويراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يجب أن يحب لله، لا يحب واحد منهما لذاته؛ إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة.

والله فطر عباده على ذلك، وهو أعظم من كونه فطرهم على حب الأغذية التي تصلحهم، فإذا تناولوا غيرها أفسدتهم، فإن ذلك وإن كان كذلك، ففي الممكن أن يجعل في غير ذلك ما يغذيهم. وأما كون الفطرة يمكن أن تصلح على عبادة غير الله، فهذا ممتنع لذاته كما يمتنع لذاته [ ص: 375 ] أن يكون للعالم مبدع غير الله. قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم [سورة الروم: 30].

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟».

وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا».

والفطر تعرف هذا أعظم مما تعرف ما يلائمها من الطعام والشراب، لكن قد يحصل للفطرة نوع فساد، فيفسد إدراكها، كما يفسد إدراكها إذا وجدت الحلو مرا، وهذا هو أعرف المعروف الذي أمر الله الرسل أن تأمر به، والشرك أنكر المنكر الذي أمرهم بالنهي عنه، والشرك لا يغفره الله، فإنه فساد لا يقبل الصلاح.

ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله، فالأول شرك والثاني إيمان.

قال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [سورة البقرة: 165]، فليس لأحد أن يحب شيئا مع الله. [ ص: 376 ]

وأما الحب لله، فقال تعالى: أحب إليكم من الله ورسوله [سورة التوبة: 24].

وقال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار».

وفي الحديث: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان».

وهذا حقيقة قوله تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله [سورة الأنفال: 39].

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك».

فمكان الفعل الواحد ممتنع أن يكون من فاعلين مستقلين، فيمتنع أن يكون المرادين مستقلين بالإرادة، فإن كون هذا مستقلا بكونه هو المراد المحبوب، يناقض كون الآخر كذلك، ومتى لم يكن المراد مستقلا [ ص: 377 ] بالإرادة، لم يكن هو المراد، بل بعض المراد وما كان بعض المراد لم يحصل به صلاح النفوس، وهو المراد الذي لا يصلح المتحرك بالإرادة إلا به، فمن أراد غير الله بعلمه امتنع أن يكون الله مراده بعمله، ومن لم يكن الله هو مراده، لم يحصل صلاحه، بل كان الحاصل فساده بالشرك لا يغفر، بخلاف ما دونه.

وأفضل الكلام قول: لا إله إلا الله. والإله هو الذي يستحق أن تألهه القلوب بالحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء، فهو بمعنى المألوه، وهو المعبود الذي يستحق أن يكون كذلك.

ولكن أهل الكلام الذين ظنوا أن التوحيد هو مجرد توحيد الربوبية، وهو التصديق بأن الله وحده خالق الأشياء، اعتقدوا أن الإله بمعنى الآله: اسم فاعل، وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع، كما يقول الأشعري وغيره، ممن يجعلون أخص وصف الإله القدرة على الاختراع.

ومن قال: إن أخص وصف الإله هو القدم، كما يقوله من يقوله من المعتزلة، قال ما يناسب ذلك في الإلهية، وهكذا غيرهم، وقد بسط الكلام على هذا في موضعه.

والمقصود هنا التنبيه على هذه الأمور، وأن هؤلاء غلطوا في معرفة حقيقة التوحيد، وفي الطرق التي بينها القرآن، فظنوا أنه مجرد اعتقاد أن العالم له صانع واحد. ومنهم من ضم إلى ذلك نفي الصفات أو بعضها، فجعل نفي ذلك داخلا في مسمى التوحيد. وإدخال هذا في مسمى التوحيد ضلال عظيم. [ ص: 378 ]

وأما الأول، فلا ريب أنه من التوحيد الواجب، وهو الإقرار بأن خالق العالم واحد، لكنه هو بعض الواجب وليس هو الواجب الذي به يخرج الإنسان من الإشراك إلى التوحيد، بل المشركون الذين سماهم الله ورسوله مشركين، وأخبر الرسل أن الله لا يغفر لهم، كانوا مقرين بأن الله خالق كل شيء.

فهذا أصل عظيم يجب على كل أحد أن يعرفه، فإنه به يعرف التوحيد، الذي هو رأس الدين وأصله.

وهؤلاء قصروا في معرفة التوحيد، ثم أخذوا يثبتون ذلك بأدلة، وهي، وإن كانت صحيحة، فلم تنازع في هذا التوحيد أمة من الأمم، وليس الطرق المذكورة في القرآن هي طرقهم، كما أنه ليس مقصود القرآن هو مجرد ما عرفوه من التوحيد.

التالي السابق


الخدمات العلمية