صفحة جزء
وقد اعترض عليه أبو البركات بما مضمونه أن الأجسام المرئية والمتخيلة كثيرة، ومحل ذلك في الجسم لا يكون أكثر من مجموع جسم الإنسان، وجسم الإنسان لا يسع مقادير هذه الأجسام.

قال أبو البركات: "أول المعارضة أن نناقض فنقول وندعي نقيض المسألة المصدر بها، وهو أن مدرك الجزئيات فينا من المبصرات والمسموعات وسائر المحسوسات ليس بقوة [ ص: 101 ] جسمانية"... "وإذا ثبت في هذه التي هي الأظهر، صار بطلانه في النقيض الأخفى والأضعف يقينا".

قال: وذلك أن القوة الجسمانية فينا لا يكون محلها أكبر من جسم الإنسان الواحد بجملته. وقد قالوا: إنه جزء صغير من أجزائه، حيث جعلوا محل القوة الخيالية جزءا من جوهر الدماغ، الذي في البطن المقدم من الرأس، أو جزءا من الروح الدماغي، وهو الذي يختص بهذا الجزء منه. ونحن فندرك من المتخيلات ونتصور من الموجودات الجزئية أشياء كثيرة محفوظة في أذهاننا وملحوظة، بها يكون الواحد منها أضعافا كثيرة لجسمنا بأسره، فكيف للجزء المذكور من بعض أجزائه؟

قال: وهو فقد طلب في احتجاجه الأخير جسما يتخيل به السواد والبياض، ليثبت كلا منهما في جزء منه، غير الجزء الذي أثبت فيه الآخر، فكيف أعرض عن المقدار؟ ونحن إنما ندرك الألوان في الأجسام مع مقاديرها، حتى إذا رأيناها مرة أخرى [ ص: 102 ] على قدر مخالف عرفنا أنها زادت أو نقصت، فلو لم نكن أدركنا المقدار الأول لما حفظناه، ولو لم نحفظه لم نعرف الزيادة والنقصان. هذا في شخص واحد في تمثله وتخيله، فكيف في أشخاص كثيرة جدا نحفظها بأشكالها وصورها، ومقاديرها وأوضاعها، لا تسعها خزانة من خزائن تسع عدة من أشخاص الناس؟ بل ولا بلدة من أكبر البلدان؟ فإن من جملة ما نحفظه في ذلك صورة بلدة مع مقدارها الكبير، وأوضاع أجزائها، حتى لو صغرت أو كبرت عن ذلك، شعرنا بموضع الزيادة والنقصان مقيسا إلى ما استثبتناه وحفظناه.

قال: ففي هذا كفاية لمن تأمله بذهن سليم ونظر ثابت.

قال: وأما ما قاله من أن المدرك بالحواس الظاهرة فالأمر فيه سهل واضح؛ لأن هذه الصورة إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة، والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضرا موجودا عند جسم، وليس يكون حاضرا عند ما ليس بجسم، فإنه لا نسبة للجسم إلى قوة مفردة من جهة الحضور والغيبة، فإن الشيء الذي ليس في مكان، لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده، والغيبة عنه. [ ص: 103 ]

قال: وأعجب ما في هذا القول استسهاله، إذ قال: إن الأمر فيه واضح سهل، ولو كان هذا القول حقا على ما قيل، لبطلت علائق النفوس الناطقة بالأبدان، فإنها ينسب إليها بفي، ومع، وعند، ومقارنة، ومفارقة، وغيبة، وحضور، كما ينسب المدرك إلى مدركه.

ثم لو كان هذا حقا، لما أدركنا بعقولنا معنى شيء مما ندركه بحواسنا البتة، فإن رأيه هو أن البصر يرفع صورة المبصر إلى الخيال، وهو جسماني، فالعقل إن أدركها في الخيال فقد أدركها جسمانية أيضا، وإن أدركها قوة جسمانية في الخيال، نقلها إلى قوة أخرى، فأدركها العقل فيها -كان القول كذلك أيضا، ولو كانت الوسائط ما كانت؛ إذ كان أول ما يلقاها إما أن يلقاها في قوة جسمانية، فيكون حكمها حكم الأولى، وإما أن يلقاها في قوة مجردة، فحكمها حكم العقل.

فإن قيل: إن العقل لا يدركها في القوة الجسمانية، بل يرفعها إليه، وينتزعها منه، أو يجردها، فكل تلك العبارات [ ص: 104 ] المقولة تقتضي لقاء من الرافع للمرفوع إليه، وحضورا من المرفوع عند الرافع، وكذلك من المنتزع عند المنتزع منه، والمجرد عند المجرد عنه. فلولا نسبة لقاء وحضور، وما شئت سمه للنفس إلى البدن، لما كان آلة لها، وإلى المدركات لما أدركها، ولو لم يدركها لما عقلها كلية ولا جزئية، وكيف والشيء المدرك واحد في معناه، والكلية تعرض له بعد كونه مدركا باعتبار ونسبة وإضافة، بالمشابهة والمماثلة إلى كثيرين، وهو هو بعينه؟ وإذا اعتبر من حيث هو لم يكن كليا ولا جزئيا، وإنما يدرك من حيث هو موجود، لا من حيث هو كلي ولا جزئي، وتعرض له الكلية والجزئية في الذهن بعد إدراكه، فمدرك الكلي هو مدرك الجزئي لا محالة؛ لأن الكلي هو الجزئي في ذاته ومعناه، لا في نسبه وإضافاته التي صار بها كليا وجزئيا.

التالي السابق


الخدمات العلمية