صفحة جزء
وكذلك أبو عبد الله بن الخطيب وأمثاله أثبتوا وجود الصانع بأربع طرق، منها ثلاثة مبنية على أصلين، وربما قالوا بست طرق، منها خمسة مبنية على الأصلين المتقدمين في توحيد الفلاسفة وتوحيد المعتزلة.

فإنه قال: الاستدلال على الصانع إما أن يكون: بالإمكان، أو الحدوث.

وكلاهما: إما في الذات، وإما في الصفات، وربما قالوا: وإما فيهما.

فالأول: إثبات إمكان الجسم بناء على حجة التركيب التي هي أصل الفلاسفة.

والثاني: بيان حدوثه بناء على حجة حدوث الحركات والأعراض التي هي أصل المعتزلة.

والثالث: إمكان الصفات بناء على تماثل الأجسام.

والرابع: إمكانهما جميعا.

والخامس: حدوث الصفات، وهذا هو الطريق المذكور في القرآن.

والسادس: حدوث الأجسام وصفاتها، وهو مبني على ما تقدم.

وهذه الطرق الست كلها مبنية على الجسم، إلا الطريق الذي سماه حدوث الصفات يعني بذلك ما يحدثه الله في العالم من الحيوان والنبات والمعدن والسحاب [ ص: 308 ] والمطر وغير ذلك، وهو إنما سمى ذلك حدوث الصفات متابعة لغيره ممن يثبت الجوهر الفرد، ويقول بتماثل الأجسام، وإن ما يحدثه الله تعالى من الحوادث إنما هو تحويل الجواهر التي هي أجسام من صفة إلى صفة مع بقاء أعيانها، وهؤلاء ينكرون الاستحالة.

وجمهور العقلاء وأهل العلم من الفقهاء وغيرهم متفقون على بطلان قولهم، وأن الله تعالى يحدث الأعيان ويبدعها، وإن كان يحيل الجسم الأول إلى جسم آخر، فلا يقولون: إن جرم النطفة باق في بدن الإنسان، ولا جرم النواة باق في النخلة.

والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع، فإن هذه الجمل هي من جوامع الكلام المحدث الذي كان السلف والأئمة يذمونه، وينكرون على أهله.

والمقصود هنا أن هذه هي أعظم القواطع العقلية التي يعارضون بها الكتب الإلهية، والنصوص النبوية، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.

فيقال لهم: أنتم وكل مسلم عالم تعلمون بالاضطرار أن إيمان السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكن مبنيا على هذه الحجج المبنية على الجسم، ولا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا أن يستدل بذلك على إثبات الصانع، ولا ذكر الله تعالى في كتابه وفي آياته الدالة عليه وعلى وحدانيته شيئا من هذه الحجج المبنية على الجسم والعرض، وتركيب الجسم وحدوثه وما يتبع ذلك.

فمن قال: إن الإيمان بالله ورسوله لا يحصل إلا بهذه الطريق كان قوله معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام.

ومن قال: إن سلوك هذه الطريق واجب [ ص: 309 ] في معرفة الصانع تعالى كان قوله من البدع الباطلة المخالفة لما علم بالاضطرار من دين الإسلام.

ولهذا كان عامة أهل العلم يعترفون بهذا: وبأن سلوك هذه الطريق ليس بواجب، بل قد ذكر أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أن سلوك هذه الطريق بدعة محرمة في دين الرسل، لم يدع إليها أحد من الأنبياء ولا من أتباعهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية