صفحة جزء
قال ابن رشد: وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي -أعني الإنسان- يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالم قادر، فإنه بالحري أن يكون ذلك واجبا في الفاعل الحقيقي.

قال: ولهذا الفعل شرط آخر في الشاهد، وهو أن يكون بواسطة، وهو اللفظ.

وإذا كان هذا هكذا، وجب أن يكون الفعل من الله تعالى، في نفس من اصطفى من عباده، بواسطة ما، إلا أنه ليس يجب أن يكون لفظا، ولا بد مخلوقا له، بل قد يكون بواسطة ملك، وقد يكون وحيا؛ أي بغير لفظ يخلقه، بل يفعل فعلا في السامع ينكشف له به ذلك المعنى.

وقد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع المستمع المختص بكلامه.

وإلى هذه الأطوار الثلاثة الإشارة بقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء [الشورى: 51]. [ ص: 208 ]

فالوحي هو وقوع ذلك المعنى في نفس الموحى إليه بغير واسطة لفظ يخلقه، بل بانكشاف ذلك المعنى له بفعل يفعله في نفس المخاطب.

كما قال تعالى: فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى [النجم: 9-10].

وقوله: من وراء حجاب هو الكلام الذي يكون بواسطة ألفاظ يخلقها في سمع الذي اصطفاه بكلامه، وهذا هو كلام حقيقي، وهو الذي خص الله به موسى، ولذلك قال: وكلم الله موسى تكليما [النساء: 164]. وأما قوله: أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه [الشورى: 51]، فهذا هو القسم الثالث، وهو الذي يكون بواسطة الملك.

قال: وقد يكون من كلام الله ما يلقيه إلى العلماء، والذين هم ورثة الأنبياء، بواسطة البراهين. [ ص: 209 ]

قلت: هذا كله على أصله إخوانه الفلاسفة كما تقدم. وهؤلاء في الحقيقة لم يثبتوا لله كلاما ولا تكليما هو أمر ونهي، وإنما أثبتوا مجرد العلم والإعلام.

وقوله: "ولهذا الفعل شرط في الشاهد -وهو اللفظ- فيجب أن يكون من الله بواسطة، وهو الملك، أو جعل العبد عالما بذلك، أو لفظ يخلقه في سمع المستمع" فهذا شر من قول المعتزلة، الذين يقولون: كلام الله مخلوق.

التالي السابق


الخدمات العلمية