صفحة جزء
قال: والمنكر هو التسلسل في المؤثرات. [ ص: 340 ]

قال: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإن التقدم صفة إضافية عارضة للشيء بالنسبة إلى المتأخر عنه ولو بأزمنة كثيرة، مع امتناع حصول المتقدم مع المتأخر.

قلت: وقول الأرموي: لقائل أن يقول: التسلسل هاهنا واقع في الآثار، لأن المؤثرية صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر، فتكون متأخرة عن الأثر فاقتضت مؤثرية أخرى بعد الأثر، حتى يكون بعد كل مؤثرية مؤثرية:

يعترض عليه: بأن هذا يناقض قوله بعد هذا: بل الجواب عنه: أن الصفة الإضافية العارضة للشيء بالنسبة إلى غيره لا تتوقف إلا على وجود معروضها، فإنه إن كان هذا القول صحيحا لم يلزم عن المؤثر، وإن كانت الصفة العارضة للشيء لا تتوقف، بل يكفي فيها تحقق المؤثرية فقط.

ولكنه يجيب عن هذا بأن مقصودي أن ألزم غيري إذا قال: تتوقف المؤثرية على المؤثر والأثر بأن هذا تسلسل في الآثار، لا في المؤثرات، وهذا إلزام صحيح.

لكن يقال له: كان من تمام هذا الإلزام أن تقول: المؤثرية إذا كانت عندكم صفة إضافية يتوقف تعقلها على المؤثر والأثر كانت مستلزمة لوجود الأثر، [ ص: 341 ] فإن كونه مؤثرا بدون الأثر ممتنع، وحينئذ فمعلوم أن الأثر يكون عقب التأثير الذي هو المؤثرية، فإنه إذا خلق وجد المخلوق، وإذا أثر في غيره حصل الأثر، فالأثر يكون عقب التأثير، وهو جعل المؤثرية متأخرة عن الأثر.

وليس الأمر كذلك، بل هي متقدمة على الأثر، أو مقارنة له عند بعضهم، ولم يقل أحد من العقلاء: إن المؤثرية متأخرة عن الأثر، بل قال بعضهم: إن الأثر متأخر منفصل عنها، وقال بعضهم: هو مقارن لها، وقال بعضهم: هو متصل بها، لا منفصل عنها، ولا مقارن لها، وهذا أصح الأقوال.

ولكن على التقديرين: تكون المؤثرية حادثة بحدوث تمامها، فيلزم أن يكون لها مؤثرية، وتكون المؤثرية الثانية عقب المؤثرية الأولى.

وهذا مستقيم لا محذور فيه، فتكون المؤثرية الأولى أوجبت كونه مؤثرا في الأثر المنفصل عنه، وكونه مؤثرا في ذلك الأثر أوجب ذلك الأثر.

وهذا على قول الجمهور الذين يقولون: الموجب يحصل عقب الموجب التام، والأثر يحصل عقب المؤثر التام، والمفعول يحصل عقب كمال الفاعلية، والمعلول يحصل عقب كمال العلية.

وأما من جعل الأثر مقارنا للمؤثر في الزمان ـ كما تقوله طائفة من المتفلسفة ومن وافقهم ـ فهؤلاء يلزم قولهم لوازم تبطله، فإنه يلزم عند وجود المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، ومع المؤثرية التامة أن يكون لها مؤثرية تامة، وهلم جرا، وهذا تسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل في المؤثرات لا في الآثار، فإن التسلسل في تمام المؤثرية، وهو من جنس التسلسل [ ص: 342 ] في المؤثرات أن يكون للمؤثر مؤثر معه، لا يكون حال عدم المؤثر، فإن الشيء لا يفعل في حال عدمه، وإنما يفعل في حال وجوده، فعند وجود التأثير لا بد من وجود المؤثر، فإن المؤثر التام لا يكون حال عدم التأثير، بل لا يكون إلا مع وجوده، لكن نفس تأثيره يستعقب الأثر، فإن جعل تمام المؤثرية مقارنا للأثر كان من جنس التسلسل في المؤثرات، لا في الآثار.

وقد يقول القائل: هذا الذي أراده الرازي بقوله: إن المؤثرية ليست صفة ثبوتية زائدة على الذات، وإلا كانت مفتقرة إلى المؤثر، فتكون مؤثريته زائدة، ويتسلسل فإنه قد يريد التسلسل المقارن لا المتعاقب، فإنها إذا كانت زائدة افتقرت إلى مؤثر يقارنها، كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والمتكلمين.

والرازي قد يقول بهذا، وحينئذ فهذا التسلسل باطل باتفاق العقلاء.

فيقول القائل: هذا هو الإلزام الذي ألزم به الرازي الفلاسفة، حيث قال: والجواب أن هذا يقتضي دوام المعلول الأول، لوجوب دوام واجب الوجود، ودوام الثاني لدوام الأول، وهلم جرا، وإنه ينفي الحوادث أصلا.

قال: فإن قلت: واجب الوجود عام الفيض، يتوقف حدوث الأثر عنه على استعدادات القوابل، فكل حادث مسبوق بآخر لا إلى أول.

قلت: حدوث العرض المعين لا بد له من سبب، فذلك السبب إن كان حادثا عاد الكلام في سبب حدوثه، ويلزم وجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة، وهو محال، وإن كان قديما لم يلزم من قدم المؤثر قدم الأثر، فكذلك في كلية [ ص: 343 ] العالم.

فيقال: هذا الكلام الذي ذكره الرازي جيد مستقيم، وهو إلزامهم الحوادث المشهودة التي قد يعبر عنها بالحوادث اليومية، فإنه لا بد لها من مؤثر تام، فإن كان قديما أمكن وجود الحادث عن القديم، وبطل قولهم، وإن كان حادثا فلا بد على قولهم أن يكون حادثا مع حدوث الأثر، لا قبله، لأنهم قد قرروا أن المؤثر التام يجب أن يكون أثره معه في الزمان لا يتأخر عنه، فعلى قولهم هذا: يجب أن يكون المؤثر التام معه أثره، والأثر معه مؤثره، لا يتقدم زمان أحدهما على زمان الآخر، وحينئذ فالحادث المعين يجب أن يكون مؤثره معه حادثا، ويكون مؤثر ذلك المؤثر معه حادثا، فيلزم وجود أسباب ومسببات هي علل ومعلومات لا نهاية لها في زمن واحد معلوم الفساد بضرورة العقل، وقد اتفق العقلاء على امتناعه.

واعتراض الأرموي عليه ساقط حينئذ.

فإن ملخص قوله: إن اللازم حدوث المؤثر، أو حدوث بعض شرائطه، وهم يجوزون حدوث الشرائط والمعدات على سبيل التعاقب.

فيقال لهم: هم يجوزون أن يكون بعد كل حادث حادث فيقولون: حدوث الحادث الأول شرط في حدوث الحادث الثاني، والشرط موجود قبل المشروط.

ولكن هذا يناقض قولهم: إن العلة التامة تستلزم أن يكون معلولها معها في الزمان، وأن المعلول يجب أن يكون موجودا مع تمام العلة، لا يتأخر عن ذلك، فإن موجب هذا أنه إذا حصل شرط تمام العلة حصل معه المعلول لا يتأخر عنه، وكلما [ ص: 344 ] حدث حادث كان الشرط الحادث الذي به تمت علية العلة حادثا معه لا قبله، ثم ذلك الحادث أيضا يحدث الشرط الذي هو تمام علته معه لا قبله، وهلم جرا، فيلزم تسلسل تمام العلل في آن واحد وهو أن تمام علة هذا الحادث حدث في هذا الوقت، وتمام علة هذا التمام حدث في هذا الوقت، وهلم جرا.

والتسلسل ممتنع في العلة، وفي تمام العلة، فكما لا يجوز أن يكون للعلة علة، وللعلة علة إلى غير غاية، فلا يجوز أن يكون لتمام العلة تمام، ولتمام العلة تمام إلى غير غاية.

والتسلسل في العلل وفي تمامها متفق على امتناعه بين العقلاء، معلوم فساده بضرورة العقل، سواء قيل: إن المعلول يقارن العلة في الزمان، أو قيل: إنه يتعقب العلة.

ولكن هؤلاء لا يتم قولهم بقدم شيء من العالم إلا إذا كان المعلول مقارنا للعلة التامة لا يتأخر عنها، وحينئذ فيلزم أن يكون كل حادث تمام علته حادث معه، وتمام علة ذلك التمام حادث معه، وهلم جرا، فيلزم وجود حوادث لا نهاية لها في آن واحد ليست متعاقبة، وهذا مما يسلمون أنه ممتنع، ويعلم بضرورة العقل أنه ممتنع، وهو يشبه قول أهل المعاني أصحاب معمر. [ ص: 345 ]

وإذ كان هذا لازما لقولهم لا محيد لهم عنه: لزم أن أحد أمرين: إما بطلان حجتهم وإما القول بأنه لا يحدث في العالم شيء، والثاني باطل بالمشاهدة، فتعين بطلان حجتهم.

فتبين أن الذي ألزمهم إياه أبو عبد الله الرازي لا محيد عنه، وأن الأرموي لم يفهم حقيقة الإلزام، فاعترض عليه بما لا يقدح فيه.

ولكن مثار الغلط والاشتباه هنا: أن لفظ التسلسل إذا لم يرد به التسلسل في نفس الفعل فإنه يراد به التسلسل في الأثر، بمعنى أنه يحدث شيء، ويراد به التسلسل في تمام كون الفاعل فاعلا، وهذا عند من يقول: إن المؤثر التام وأثره مقترنان في الزمان كما يقوله هؤلاء الدهرية، فيقتضي أن يكون ما يحدث من تمام المؤثر مقارنا للأثر لا يتقدم عليه، فتبين به فساد حجتهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية